أذاعوا به

الصراع البشري بل ما قبلَ البشري في إشهارِ المعلومةِ و إخفاءها لن يتوقف حتى نهاية عالمنا ثم يوم الحساب سيحصل تبادل معلومات يكشف كل مخفي. "علَّمَ آدمَ الأسماءَ كُلَّها" و آدم رددها كما تعلَّمَها فكان هذا الإشهارَ الآدميَّ الأول لمعلومةٍ بحجمِ الكون.  و بالمقابل، علَّمَ إبليسُ آدمَ وِشايةً صدَّقها آدمُ و تبعها فأهبطهم الله من الجنةِ أعداءً إلى يوم الحساب.  ثم توالت الطبيعة البشرية و الشيطانية في تبادل المعلومةِ و تدويرها و تكذيبها و ملاحقتها.  نشأت علاقاتٌ معلوماتيةٌ بين الناس فيها النافع و الضار و المُعلنُ و المخفي علي كل المستويات و تبعَ الناس ما يروقهم و معظمهم يروقُ لهم تتبع الغريب من المعلومات، أو الممنوع عنهم لأي سببٍ كان.  هكذا تكوَّنَ عِلمُ الغَيْبة و الإشاعة و النبأُ المغرض و الجاسوسية، وهي تتناول الجانب المظلم من حاجةِ الإنسانِ لمعرفة المجهول لتوخِّي مصلحةً مضادةً لمصلحةِ مالك المعلومة. كما هي طبيعتهُ المُغَيَّبَ و المخفي يبقى في عالمٍ من السرية المحفوظة بقوانين و عقوبات ممنوعاً إلا عن ذوي الشأن. و  تكوَّنَ علم الإعلام المفتوح الواضح و المتاح، مثل أسواق الشعر و المعلقات و رواية القصة و الصحافة و وليداتها، التي تُشْهِرُ عملها بإعلام الناس (لمصلحتهم) بما يدور من حولهم لكن دون الدخول في العالم المظلم مباشرةً. و الصحافةُ أنواعٌ كلها تلتقي في احترام مبدأ حق الناس أن يتلقوا معلومةً بغض النظر عن قُبح المعلومة أو حُسنها لذلك سَمَّتْ نفسها "السلطة الرابعة" بعد سلطات التشريع و التنفيذ و العدل لتقولَ أنها من الناسِ و عنهم و لهم.  لكنها كثيراً ما تجد نفسها متهمةً من قِبَلِ السلطات الثلاث لأنها نشرت ما لا يودون الإعلان عنه أو لأنها قاربت ذلك العالم المظلم الخفي. ثم فقدت أو تكاد الصحافةُ بريقَ الورق بظهور التشبيك المعلوماتي، و في وقتِ كانت هناك وسائلَ تحاورٍ بين السلطات الثلاثة والرابعة فإن صحافة التشبيك المعلوماتي اندفعت من وترِ القوس كسهمٍ لا يمكن وقفهُ كما بدا للسلطات الثلاث. التشبيك المعلوماتي فيهِ الظاهر و فيهِ كما يقولون "المُظلِمْ" وفي المظلم تُتَناولُ معلوماتٍ علي قدْرٍ من السرية و الفضائحية و الجُرمية.  كَكُلِّ موضوعٍ هناك جانبين، مع و ضِدْ.  فما تعتبرهُ معلوماتٍ لا يجب البوح بها يعتبرها غيركَ معلوماتٍ لها الحق في العلنية أو التداول و لو في الظلام و للعالم الحق بالاطلاع عليها مباشرةً و مواربةً، كيفما يمكن.

 

و هذا مثلاً ما حصل مع جوليان أسانج صاحب ويكيليكس و دانيال إلزبيرغ صاحب أوراق الپنتاغون و إدوارد سنودن الذي كشف عمق نظام مراقبة المواطنين الأمريكيين.  أسانج في السجن و سنودن في منفاه الاختياري في موسكو و إلزبيرغ لوحق بالقانون و بُرِّئَ من تهمةِ البوح بالأسرار و مات مؤخراً. لم يلاحق القانون الكاتب سيمور هيرش الذي كشف مذبحةً أمريكيةً للڤيتناميين أثناء الغزو الأمريكي لتلك البلد ويبقى يكشف قضايا و أسرار يختار أصحابها أن لا يؤكدوها أو ينفوها و لكن لا تشوبها شائبة فمصادره رصينة و عليمة و هو يقول مؤكداً أن كشف الحقائق هو في صُلْبِ عمله و لن يتوقف عنهُ.  هؤلاء نظروا لما فعلوا و يفعلون كحقٍّ مكتسب تعطيه لهم الديموقراطية التي نشأوا بحضنها، و حكومات الديمقراطية تنظر لهم كأشخاصٍ اخترقوا المسموح فيه فيما يتعلق بالمعلومات.  بالطبع، حرية الصحافة لها تقديسٌ عالٍ في الغرب و حرية التعبير بأنواعه كذلك.  لكن هذا لم يمنع بريطانيا من حظر كتابٍ في الثمانينات عن عمليات استخباراتها فلم يُنشر في بريطانيا و نُشِر في استراليا و نيويورك، و لا يمنع القضاء هناك من الأمرِ  بحظر النشر لتفاصيل حادثة أو جريمة تعتبرها الحكومات حساسة للأمن القومي أو المجتمعي، و لا يمنع الإذن بإحراق المصحف الشريف و نشر رسوم تهكمية عن الإسلام و رسولهِ الشريف و لكن في الوقت ذاته يمنع أي تعبيرٍ عن انتقاد الهولوكوست أو ما يمكن أن يكونَ عداءً لليهود الساميين.  لكن حرية وصول المواطن للمعلومات رغماً عن هذا لا تتقيد فمن يستطع الوصول للكتاب والصورة بالوسائل المتاحة لكل مواطن سيحصل عليها و لو كانت محظورةَ النشر.  كتاب "صائد الجاسوس" و ملفات ويكيليكس وسنودن و غيرها أمثالٌ لهذا و هي  متاحةٌ للجميع ولو طوردَ الناشرون. 

 

يختلف الوضع عندنا علي الوجهين، الناشر ووسيلة الوصول لما نشر.  معظم بلادنا تمتلك قدراتٍ معتبرة لخنق الناشر و المنشور.  باستثناء النشر في لبنان الذي لا زال يتمتع بالحرية لنشر ما يشاء من مكتوبٍ ممنوع، تمارس بلادنا الرقابة الصارمة علي الناشر و المنشور ما يحث الكاتب علي ممارسة الرقابة الذاتية و يمنع دار نشر من طباعةِ ما لا توافق عليه الحكومات.  استطاع محمد حسنين هيكل أن يكتب باسترسالٍ موثق لسنواتٍ عديدة لكن صِلاته ومكانته لم تحولا دون اعتقالهِ و سجنه.   أما عبدالرحمن منيف فنفى نفسه ليكتب تأريخاً روائياً يستقطب القارئ لليوم.  و مُنِعَ شعر الشاعر مُظفر النواب المكتوب من دخول معظم البلاد العربية.  هذهِ أسماءٌ لها مواقف مجتمعية و سياسية قد تُبَرِرَّ لِحدٍّ ما ردود الحكومات عليها. بل و حتى أذواق القراء فلا تتبعهم قراءةً.  لكن حتى مع هذا هناك حريةً مسلوبةً و تتبعاً خفياً لكل ممنوع.  يودي التقييد الرسمي لضيقِ مساحاتِ التعبير و اتساع مساحات الرقابة الذاتية و المؤسسية، كما يؤدي للكتابة والنشر بحريةٍ خارج نطاق بلداننا .  هكذا ذهب العديد للبنان و لندن للكتابة والطباعة هرباً من الرقابة الذاتية و المؤسسية و الملاحقة.  لم ينج ناجي العلي فلحقته رصاصات الاغتيال في عقر لندن.  أما اليوم فالكاتب و الكتابة لا ينحصران بورق و حبرٍ و ناشر لأن الكتابة الالكترونية والنشر أسهل و أسرع و يمكنَّان الكاتب من الاستخفاء الاكتروني.  لا يفعل هذا الكاتب الرصين لكن الآلاف يفعلون.   

 

الإئتلاف العالمي للصحافة الاستقصائية (ICIG) و الصحفيون العرب من أجل الصحافة الاستقصائية (أريج) من الفئةِ الرصينة، و لستُ أسوقهما إلا مثلاً، فهما يتتبعان مسائل شائكةً في جوهرها قضايا الفساد المؤسسي و الفردي و ينشران ما يصلان له بعد تمحيصٍ شاقٍّ.  سيختلف معهما الكثير و بالقطع أولئك المذكورين في تحقيقاتهم لكن سلطةَ المؤسسة والفرد علي المعلومات لا تستطيع تجاوز النفي و التبرير أو التجاهل.  و قد يختلف البعض مع وصفي لهما بالرصانة معتبرينهما صحافةً فضائحية سياسية همها تشويهَ الأسماء و المكانات. لكن جهودهما سلطتا الضوء العام علي قضايا مهمة للناس و قد تجبر المخالفين للعودة عن المخالفة، أو تدفعهم لاستنباط وسائل أفضل لإخفاء مخالفاتهم.  إلى جانبهما هناك الآلاف من الأفراد ممن ينشرون مقالاتً و صوراً و أفلامَ وعظاتٍ كثيرها مفيدٌ، و لكنهُ عدداً ربما مساوٍ لتلك التي يرفضها العاقل لتدهور مستواها، لكنه العالم المعلوماتي المتشابك الذي يسمح ويستوعب السمين والغث جنباً لجنب، وعليك الاختيار.   

 

بماذا يفيد هذا الاستطراد؟ هي مبارزةٌ بين فِكرينِ في الظاهر المُعلن  فلا بد للحياةِ من أسرارٍ وهذه يقررها من يملك الأسرار فإن كانت الأسرار من نوعِ أمنيٍّ وطني مخلص فلربما يخطأ من يفشيها.  لكن هذه الأسرار لها قوانين خاصةً بها يكسرها الجواسيس و أمثال سنودون و أسانج.  إن تستمع للجواسيس الذين كتبوا أو كُتِبَ عنهم و لسندون و أسانج اللذين لا يصنفان جاسوسياً فسندرك أنهم يقصون الحكاية من منظورهم.  الجاسوس يدافع عن بلاده عندما يسرق المعلومات و سنودون و أسانج يدافعان عن حرية المواطن ضد ما يراناهُ سطوة الحكومات و تغولها علي خصوصياتهِ.  الحكومات ببلادنا لا تختلف عن غيرها في منع المحظور نشرهِ و معاقبة الجاسوس و ملاحقةَ المتلصص أو الرامي بالسوء و لكنها تزيد العيار بامتلاكها للإعلام الموجه الذي يكتب ما تريد بناءً علي حقٍّ هي خلقته و لم يكن لمواطنٍ رأيٌ فيه.  و هي ليست فريدةً في هذا. راديو أوروپا الحرة بثَّ لعقود دعايةً سياسيةً مدروسةً صد حلف وارسو إلى أن تفتت الحلف. و هيئة الإذاعة البريطانية تبث بلغاتٍ عديدة ما يخدم شمس الإمبراطورية لليوم. و بعد حرب أوكرانيا الروسية حُجبت محطات روسية عن البث في أوروبا. بعض دولنا أطلقَ إعلاماً  منتشراً في القارات يغطي و ينتقد و يحض علي التغيير في كل البلاد عدا بلدهِ.  و الجميع يسمونه إعلاماً حُراًّ.  و لما لم تنصاع بعض المطبوعات العربية التي لاذت للغرب للنشر أُشتريت و تحولت رسالتها للانصياعِ.  كل هذا من أجل أن لا يُنشرَ إلا ما تريدُ سلطةٌ ما لأهدافها السياسية بالتأكيد.  لم يحل هذا من انتشار المعلومة عبر التشبيك المعلوماتي العاتي و العابر للحدود.  فانبرت الدول لتصنيع مصائد إلكترونية لحجب مواقع، و قد تنجح في ذلك، إلاّٰ أن الغريم صنعَ شبكةَ محاكاةٍ شخصية تمكن مستخدمها من خداع المصائد و الولوج لكل المواقع.  فصنعت لذلك مؤسساتٌ تقنيةٌ وسائل أكثر تعقيداً باعتها للدول لكي تتجسس علي خصومها و أصدقاءها و نالَ هذا التجسس فئة الصحفيين و الكتاب و المفكرين كما نال السياسيين و من في رتبتهم.  كل هذا للسيطرة أو التحسب و الوقاية من الفكر و الخبر و النشر؛ خوفاً مِمْاذا؟  و صاحبَ هذه العمليات سنَّ قوانين صارمة و مؤذية لردع الناس عن متابعة السمين و الغث من الأخبار المبثوثة فردياً و مؤسسياً أو إعادة توزيعها و نشرها. والحقيقةُ أنهُ لا توجد إلا قاعدةٌ واحدةٌ هي قاعدةَ المصلحة.  ما لا يوافق مصلحتي ليس من  مصلحتك معرفته و نشرهُ.  و ما لا يعجبني من إعلام و يعجبك لن يكون متاحاً لك.  قاعدةٌ سهلةٌ في عموميتها و تنطبق علي الفرد في عائلةٍ و دولةٍ.  و لن يكون هناك من توقفٍ  لصراع المصالح عبر الإعلام مهما اختلفت وسائل التقييد، فلكلِ قيدٍ مفتاح.  و كما قيلَ "للحرية الحمراء بابٌ بكل يدٍ مضرجةٍ يُدَّقُ" و هكذا هي حريةُ الفرد في رؤية الخبر و نشرهِ و حرية الدولة في منعه.  عنوانان للحرية و بابها و اليد المضرجة: عنوان سلطة وعنوان متحديها فكليهما بابٌ و قبضةٌ. والسلطة لها عنوانين متبادلين: السلطة الرابعة و السلطات الثلاث و كليهما ترى ذاتها وسيلة العطاء الإعلامي الصحيح.  و كلنا في كينونتنا نحمل كل السلطات. يجلس الأكبر أمام التلفاز فيقرر ماذا يرى فهو المُشَّرعْ و المنفذ و القاضي.  يختفي للحظات فيقوم الأصغر منه و الأكبر من الباقي بتحويل القناة. و هكذا هي الدول و الأفراد.  سلطةٌ و منعٌ و سامحٌ مشروط و اختلاسٌ و مناورةٌ يتبعها ملاحظةٌ و نهيٌ و عقابٌ يؤدي للسرية.  خلاصةَ القول أن استخلاص الأحسن للإنسان يستوجب تربيةً و تعليماً و تثقيفاً و حُرِّيةً تنبني بالتدريج العقلاني تغيب اليوم عن الدولة و الفرد.  و خلاصةَ الخلاصة هو استحالةَ الكمال عند الفرد و الدولة و جل ما يمكن توخيه مع التربية و التعليم و التثقيف العقلاني هو الاستنارة بالإعلام ليخدم الازدهار الصحي للأفراد و الدول.  لكن ما دام آدم تعلم فسيقول، و ما دام الشيطان وشى فلن يتوقف، في مبارزةٍ يتبادلان فيها الأدوار كل لحظة.  فنحنُ النفس والوسواس! 

Previous
Previous

العرب و الكوارث

Next
Next

أربيل و إسرائيل