أمريكي يتحدث
توقفتُ عند هذا العنوان، "أمريكي يتحدث"، لمحتهُ في أحد المواقع، و معهُ صورة هذا الشخص الأمريكي. قلتُ لنفسي ماذا يعني لنا أن يتحدث أمريكي؟ و لماذا لا يقولون تحدث روسي أو صيني أو ماليزي أو عربي؟ قِسْتُ العنوان بإعلاناتٍ كنا نراها لحفلات رأس السنة. كانوا يقولون فيها عن الفنان و الراقصة لكي يجرجروا العابثين للسراب. و قلتُ لنفسي كم هو مُبتذلٌ هذا العنوان و كم هو افتراضيٌّ كذلك. هو مبتذلٌ لإظهارهِ الجنسية الأمريكية كأنها و ليست غيرها العارفة و منها نستقي المعلومة. و افتراضي لأنه يفترض فينا الخضوع و قراءة المقالة لأن أمريكياً يقول. فلو كتبوا "أردني" يتحدث لما ارتد الطرف له ولو كان عالماً. لكنني عاودتُ نفسي. قلتُ أن السبب هو غلواء الانتصار الأمريكي للصهيونية واستعداء الشعوب الحرة فإن قام أمريكيٌّ ليتكلم لصالح الشعوب فهو حدثٌ يُذكر. و لو تحدث غيرهم من الجنسيات لما كان هذا حدثاً.
لكن أليس هذا هو الواقع؟ إن تحدث الأمريكي، بغلواءٍ أو تسامحٍ، الكل يسمع. للأمريكي حظوةٌ لا ننكرها بل و نتبعها و نحترمها. حظوةُ التقدم العلمي الخارق للخيال. من نزلَ على القمر و مشى على سطحه إلا الأمريكي؟ مَثَلٌ هو من بين آلاف الأمثال التي واقعياً تضع مرتبة الأمريكي عاليةً في حياتنا. و لهذا إن تحدث الأمريكي نسمع بل و ننصت و كثيراً جداً نقبل ما يقول سواء أحببنا أم لا. إنها تبعيةٌ لم يعرف التاريخ لها مثيلاً. كان الاستعمارُ، البريطاني والهولندي والبلجيكي و الفرنسي و الإيطالي و الألماني و الإسباني، و الاندفاعات الروسية و حتى الحكم العثماني، تعتمد كلها على البطش و استعباد المحكوم. لكن الأمريكي غزانا برضانا و كامل قبولنا و توقنا و محبتنا له ثم أظهرَ البطش. من كلارك جيبل للفورد والشيڤروليه و الكوكاكولا و إلى "مايو كلينيك" وهارڤارد، وأپولو و"هبل" المنظار، أمريكا هي و تبقى حاضنةً للتسليةِ و للعلم الأكاديمي المتقدم و تحويل ما هو لا معقول لمعقول. حتى سيارتيْ الجيب و الهمر العسكرية تحولتا لسيارةٍ عائليةٍ في صحاري و شوارع العرب. والإنترنيت الذي بدأ لوزارة الدفاع الأمريكية وسيلة تبادلٍ للمعلومات بين مراكز البحث العسكرية فقد صار للعالم وريداً يحمل الخبر و المال. سمُّوه الغزو الثقافي أو عقدة ستوكهولم، نحن نسمع حين يتحدث الأمريكي. يكفي أن يصل بلادنا عضو مجلس نواب أمريكي مغمور فيلتقي من السقف السياسي من يريد. لماذا؟ لأنه يتحدث في مجلسه و لجنته ربما عن المال و الأعمال و السلاح و ربما سيحبان كرمنا و انصياعنا و يساعدنا. نسأل كم من المرات بفضل هذا النائب تحدث المجلس باحترام عنا؟ ليس كثيراً. و نستمر نحبه.
لكن، مِنَ الأمريكان مَنْ يتحدث لصالحنا، نعم. منهم من يفعل. و لكثيرهم، نحنُ لهم مجرد أدوات إن لم نكن فوائض بشرية لا يحتاجها العالم. الاقتصادي جيفري ساكس يقول الحقيقة دون محاباة عن الهراء السياسي لبلاده و "لإسرائيل" و قد بلغت صراحته حدَّاً منعه من التحدث لكبريات المحطات الإخبارية التي لا تريد مشاكل مع الجمهور. المفكر نعوم تشومسكي هو الآخر يتكلم بالحقائق و لا ترضاه ذات المحطات. و أمامهما الكثير الذي يتكلم ضدنا مثل الطامحة للرئاسة نيكي هيلي التي تنافس في حيزبونتها مادلين أولبرايت مع العلم أن مادلين كانت ديموقراطية و نيكي جمهوريةً متعصبة. دون تعديدٍ للأسماء، في أمريكا الكثير من المتحدثين الذين يمكن تصنيفهم بأكثر من طريقة. هؤلاء الآيديوليجيين المنتمين للفكر الصهيوني إيماناً. و المنتمين لهذا الفكر خوفاً من وصمةِ العداء للسامية. و المنتمين له طمعاً بالمال الانتخابي و الهبات و الفوائد المادية و المعنوية. و هؤلاء الذين لا ينتمون له و لكنهم يقدسون الترابط اليهودي المسيحي و هم فئتين، الدينيين و فقط، و العنصريين ذوي الإيمان بالسيادة المسيحية و ضرورة تحالفها مع العهد القديم. و هؤلاء الذين يكرهون الصهيونية و قد يكرهون اليهود و هم فئتين. عقلانيين بلا تعصب و متعصبين بلا عقل. أن تسمع للمتعصب لا يفيدك لأنه يضعك و اليهود في خانة العدو. و أن تسمع للعاقل الذي يكره الصهيونية ففيه فائدة إن كان ذو علم، مثل ساكس و تشومسكي. العديد مما بات يظهر في الإعلام اليوم من الأمريكيين المتحدثين في الشأن العربي الإسرائيلي هم من مؤيدي "إسرائيل" و قليلٌ منهم ممن هم ضدها وينبغي الحرص عند سماعهم و التأكد من منطقهم و خلفياتهم. ليس كل أمريكي يتحدث هو علاَّمةً نتبعها!
لكن دعوني أقل لكم لماذا عندما يتحدث الأمريكي نحن، و كثيرٌ في العالم، ينصت.
هناك ٦٠٠٠ جامعة وكلية في أمريكا منها ١٤٦ جامعة مصنفةً أنها في الرتبة الأولى و هي التي تضم مراكز الأبحاث الهامة و يتخرج منها أعلى عددٍ من حاملي شهادة الدكتوراة. يليها في التصنيف ١٣٣ جامعة من الجامعات المرموقة لكنها لم تصل للدرجة الأولى. في عام ٢٠٢٢ خصصت أمريكا للبحث و التطوير حوالي ٦٨٠ بليون دولار مقارنةً بالصين التي خصصت ٥٥٠ بليون دولار وروسيا التي اكتفت ب ٥٢ بليون دولار. أما القيمة المالية لأمريكا فهي الأعلى في العالم. ثروتها تقدر ب ١٤٠ تريليون دولار، بعد خصم الديون. تأتي بعدها الصين ب ٨٥ تريليون. أما حصة روسيا فهي أعلى بقليل من ٤ تريليون و حصة "إسرائيل" ١،٤ تريليون أما السعودية فلها٢،٢٦ تريليون. أنتجت أمريكا عام ٢٠٢٢ ما مجموعه ١٠٤٨ فيلماً سينيمائياً و مسلسلاً تلفزيونياً دخلت بيوت مئات الملايين في العالم بكل اللغات الممكنة و نقلت لهم ثقافةً و أخلاقاً و معتقدات لا تُقبلُ عند الأغلبية لكن سيل التثقيف بالتمثيل لم يتوقف عند المنبع و لا عند المصب. و يمكننا بكل سهولة الإتيان بإحصائياتٍ كثيرة عن التفوق الأمريكي وكذلك عن التخلف الأمريكي لكن السماع لأمريكا لن يتوقف إلا عندما يتزايد الانحطاط عن التفوق و هو أمرٌ بعيد المنال و ليس مما يتمناه الإنسان العاقل لارتباط العالم بأمريكا ارتباط الحياة بالأحشاء.
لكن هذا العالم الذي تتفوق فيه أمريكا فيه من يصيبها بالصداع، و لا نعني روسيا والصين، بل كوريا الشمالية و اليمن و حماس و حزب الله و إيران و جنوب إفريقيا و أحياناً ڤنزويللا و كوبا. بلادٌ و فرقٌ قد لا نتوافق معها لانحيازها لمذهبيةٍ و ديكتاتوريةٍ عجائبية و لكنها تبدو لأمريكا مثل شوكة السمكة العنيدة في الحلق. و هي بلدانٌ و حركات نجحت في تطوير قدراتها رغم أنف أمريكا. و إن تحدثنا سريعاً عن الصين و روسيا فإنهما إضافةً لتطورهما التقني الذاتي لجأتا للتجسس وسرقة المعلومات التقنية من أمريكا بالذات و في أحيان كثيرة لجأتا للهندسة العكسية لفك رموز التقنية الأمريكية. حتى أمريكا لم تكن لتنجح في بناء قدراتها النووية و الفضائية و المعلوماتية لولا العلماء الألمان و الآلاف من العلماء المهاجرين لها من أنحاء العالم. عندما نقرأ عن أمريكا أنها أرض الفرص فهي كذلك و إن كان فيها القابض علي دينه و تقاليده كالقابض علي الجمر لكنه يجد فيها الفرصة و العدالة و الرخاء و يميل لها عن بلاده. هذه ناحيةٌ يجب النظر لها بتعمق. علمها و تقنيتها و حريتها و نظام عدالتها الداخلي و ثرواتها تجعلها المحجة المثالية و البقعة الأمثل للابتكار و النجاح، و للفرد المبتكر قد تكون الأسعدَ بيئةً و معيشةً.
رسالتي أننا يجب أن نسمع لأمريكا و نقتدي بالأحسن فيها و أن نسمع لغيرها ممن هو شوكة في حلقها و نقتدي بالأحسن مما عندهم. و المهم أن تسمع أمريكا مِنَّا باحترام كما تضطر لسماع غيرنا باحترام و هيبة لأن سماعها لأغلبنا لليوم لا يعدو كونه رفع عتب.