العبث

هو العبثُ العربي.

 

حين يشتعلَ مخيمٌ فلسطينيٌّ هو مدينةٌ بمدينةٍ و تتطايرَ الطلقات "الخفيفة" و الثقيلة في معركةٍ بين عبثيينَ فلسطينيين، فلا يمكن تسميتهم إلا بما يستحقون من عبثيةٍ. نسألُ ما هو ذنب صيدا المدينة اللبنانية المحتضنة لمخيم عين الحلوة أن تتحمل بلديتها و يعاني مواطنيها عبئاً أمنياً باعثاً للخوف و عدم الاستقرار سببهُ صراعٌ غير مفهومٍ إلا بالتبعيةِ السقيمة الفلسطينية لهذا و ذاك و هي تبعيةٌ لا تحملُ وطنيةً و لا ديناً بل جحيماً للمواطنين و اللاجئين. و ما هو ذنب سكان المخيم المدنيين المحاطين بسلاحٍ سائبٍ وأهواءٍ لا فيها ذمةَ الوطن و لا ضميرَ الجارَ و هو بجوارٍ مدنيٍّ و يقاتل ليس في ساحةَ حرب ضد عدو بل ضد دمهِ و عِرضهِ؟  إنها المهزلة الفلسطينية العبثيةُ المتكررةُ التي رأيناها ونراها في المخيم وفي صراع الدِيَكةِ داخل فلسطين حين يتحول الأخ لعدوٍّ ينقَضَّ على أخيه و لو في حُرمةِ دارهِ و ينافسَ محتلهُ في الظلم.

 

وحينَ يستعِرُ قتالَ السودان قاصماً ظهرَ البلادِ و مهدداً بالفعل تقسيمَ السودان، وهو الهدفَ الذي يسعى له عدو السودان، أيَّاً كانَ هذا العدو، فهي العبثية. كيف يعيش السوداني الذي تشرد ببلادهِ و ببلادِ المهجر في ظل غياب الأعمال و انقطاعِ الدخل الفردي و انحسار المدخرات؟ ندري عن تعليمٍ تعطل و قطاعٍ صحيٍّ تهتك و منشآتٍ خرجت من الخدمة العامة. هذه هي الكارثة الإنسانية التي ضربت كل عائلةٍ بمدينةٍ سودانية حيث القتال "الأخوي" فزادتها فقراً و مرضاً. عبثٌ حول من يمون في السلطة تؤججهُ ولاءاتٌ خارجيةٌ تمد السلاح والمقاتلين. لقد فشلت اجتماعات جدة وتفشل اجتماعات القاهرة و يخرج من المعادلة المبعوث الأممي و تتجمد مبادرات الاتحاد الأفريقي و تنكسفُ الجامعة العربية و هي الأكثرَ فشلاً في عجزها الموروث عن التدخل لوقف العبث. و لا يتوقف سيل التصريحات المتناكفة و لا سيل الدم السوداني. عبثٌ و خرابٌ لا يتخيله عاقل بوطنٍ عريقٍ ثريٍّ يتميز بالعقول و الخبرات و تسيطر اليوم عليه الجاهلية.  وطنٌ ينحتُ فيهِ رصاصُ الأشقاء عاراً في سمعة السودان و ثِقَلِهِ. 

 

هكذا دواليك. في اليمن السعيد المقسم علي أساسٍ مذهبي و عقائدي و تَبَعيٍّ للخارج. في سوريا التي لا تحتاج للشرح. في انتقال قوات الاحتلال الأمريكي بأريحيةٍ بين العراق وسوريا! ثم يشتعل الجدل المتكرر في الكويت و العراق عن الحدود بينهما في خور عبدالله و كأن حرباً واحدةً كارثيةً لم تكف. 

 

عندما تُقامَ البهرجانات الاحتفالية المكلفة والمفسدة فيما فئاتٌ تكثرَ يومياً من الشعب العربي يطالها جوع البطالة و قهر الديون لهو شيئٌ في قمة هرم العبثِ المجتمعي.  و لا من مستمعٍ لواعظٍ صارَ محبوساً بكلمةٍ أو مسؤولٍ ذو سلطة بات غير مكترثٍ بهذا الانزلاق الأخلاقي، نحو الكارثة دونَ شكٍّ حول حصولها، فهي مسألةَ وقت. و يصاحبها الانتشار المريع للمخدرات والمهلوسات بين فئات المجتمعات العربية حين المسؤولية عن هذا تصنيعاً و تصديراً و استهلاكاً تقع على مجمل الكيان العربي حكومةً و ناساً، فهناك من يصنعها و يحميها و يبعثها و يشتريها ويبيعها و يستهلكها.  هذه الموبقاتُ تجرُ بعضها البعض و ما يبدأ ترفيهاً و لهواً ينتهي احتراقاً و خراب بيوتٍ في ظل تصميمٍ عبثي عربي على نقل المجتمعات للحرية المبتذلة، الظاهرة للجميع، و المحمية بالقوانين.  عبثٌ أنه في زماننا تُحمى الفواجر واسم الجلالة يُسبُّ و لا من يحميه.  إلى أين وصلنا و سنقود أنفسنا؟

 

بمقالتي عن العرب و الكوارث تكلمتُ عن الحاجة للتنسيق الداخلي والعربي الواسع بمواجهة القادم من كوارث واقعةً لا محال و قرأتُ تعليقات الغاضبين من الحال العربي الحاضر بمواجهة الكوارث، و أتفق معهم.  و هنا أؤكد أن العبث المتأصلَ ببلادنا نراهُ في صرف الملايين على الأمن والسلاح، الذي يصل لثلث ميزانيات الدول، على أهميتهما، و لا نراهُ بذاك الكم  لتحسين وبناء  بُنىً تحتيةً باستدامةٍ صحيحةٍ يستفيد منها المواطن و ذريته. و ما الأمنُ إن لم يأمنَ الإنسان على حياته و مستقبل مجتمعه تعليماً و صحةً و مسكناً و عملاً؟ 

 

إنه العبث بالناس و حياتهم المفقودة و هم أحياء كما و هم أموات.  بل أنه العبث الداخلي المهترئ بالفسادِ و العبثِ الخارجي المزهُو بالنفوذ فيما العابثُ الخارجي و التابع الداخلي يرتعُ محبوراً بعبقريتهِ و الدهاء السياسي والاقتصادي والمجتمعي الذي يمكنه من تحريك التوابع للقتال و الفصال و الانفصال و تنويع الابتذال بأشكالهِ و الإثراء ببيعِ و شراء أرواح البشر عبر إهمالٍ فاضحٍ لمتطلبات النماء الآمن. 

 

أنا أنظرُ للوطن العربي على أنه وحدةٌ واحدةً و الواقع كما نعلم أنه ليس كذلك لكن كوارثه البشرية هي من صنع يد العرب المتحدة و عملهم قبل يد من يقولون أنه العدو المتربص بهم. كيف نفهم أن يقوم عربٌ بذبحِ عربٍ عبر السياسة الاستحواذية و شق البلدان والسيطرة عليها ثم يقوم ذات العرب بالمساعدة الإنسانية للمذبوحين؟ في أي عُرفٍ أو دينٍ أو تراثٍ هو هذا العبث الذي يدمرنا و لأجيالٍ قادمة؟  و حين تهب العواصف و تهتز الزلازل تطير المساعدات لتقديم العون فأين كنتم قبلها، جميعكم؟ لكنها عبثية العرب حين يجتمعون للتخريب ببعضهم و يتفرقون حين يجب أن يتعاونوا لبناء عروبةٍ كريمةٍ لبعضهم. 

 

هل لا نعلم هذا؟ بلى نعلم. و العالم يعلم و آلاف التقارير و الدراسات و الأبحاث تعلم.  لكن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.  و يبقى السؤال الإعجازي هو كيف يغير العرب أنفسهم إن لم يعترفوا هم بقصورهم في قياسِ منافعهم المشتركة الأعم على منافعهم الفردية؟  أو إن فضَّلوا منافعهم الفردية على المشتركة، فكيف يمكن أن لا تمتد منافعهم الفردية لأذيةٍ لغيرهم من العرب؟  و كيف لهم أن يؤمنوا أن أفضلَ سبيلٍ لتلبيةِ مصالحهم الفردية هي في الاندماج العربي المشترك في الاقتصاد و التشغيل و الانتقال و الأمن المشترك؟ كلها مسائل نراها بديهيةً ويراها وليُّ الأمر تفاهةً.  فمن هو العابثُ و مِمَّن العبثية؟  

 

Previous
Previous

العرب و إبليس

Next
Next

العرب و الكوارث