العرب و إبليس
يقول المثلُ العربي كنايةً عن المستحيل " أَمَلَ إبليسُ في الجنة"، فهو بكل اللعنات التي يحصدها يأملُ بالجنة و معلومٌ أنه لن ينالها. و أَمَلَ العربُ منذ سنين بمقامٍ مرموقٍ في العالم الحالي، و بعضهم نالهُ فُرادي أو دولاً لأسباب مختلفةً بعضها ماديةٌ بحتةٌ و معظمهم لم ينلْهُ فالعربُ هم بالعين غير العربية خليطٌ من الرفاهيات و الشبهات هي للاستغلال و الإذلال أقرب منها لصداقاتٍ نِدَّيةٍ، إلا ما ندرْ. للعربِ أن يأملوا بهذه المكانة المرموقة لكنها كذلك المستحيل الذي يأمله إبليس. و شَّتانَ ما بين إبليس اللعين المحكوم عليه سلفاً بالحرمان من الجنة و العرب الذين يستطيعون الحصول على المكانة المرموقة ببعض الجهد المشترك المخلص. لكن هيهات.
العربُ واحدهم و دولهم لا يريدُ الآخر. أو يريدهُ دُميةً أو تابعاً. الواحدُ منا لا يعلم ماذا يريد العرب من العرب. خُذْنا من الغرب للشرق. ماذا تريد دول المغرب العربي؟ الجزائر من المغرب و العكس، و موريتانيا المنتظرة لهما ليتفقا أو لا؟ هل الحل المقبول لإزاحة المشاكل بين البلدين هو بتغيير النظام الملكي والنظام الجمهوري؟ ما هو الذي يستطيع أن يجمع البلدين على قواسم مشتركة مقبولة للعيش معاً؟ أظنها غير موجودة في خطط السياسيين و هي موجودة بالقطع عند الشعبين بعامتهما. و لكن العلاقات المغربية المتنامية مع "إسرائيل" هو ما تعتبره الجزائر تهديداً وجودياً و يجعل من تجاوز عثرات العلاقات مستحيلاً. إذاً هل نحكم على هذه العلاقات بالعدمية و عدوانيتها المزمنة؟ هل يستعيض المغرب "بإسرائيل" عوضاً عن الجزائر؟
و كذلك وضع ليبيا المتأسس اليوم على نزاعاتٍ داخليةٍ و تداخلاتٍ خارجيةٍ منها ما هو مذهبي و منه ما هو نفطي/غازي و منه ما هو مبدأي يتعلق بالحقوق السياسية و التمثيل الديموقراطي و المشاركة و هي إما مقيدة أو مُسيَّرة و منه ما هو محض إجرامي يتعلق بعصابات تهريب و تعبيد البشر من إفريقيا و منها ما هو إرهابي بامتداد داعش الإفريقية نحو السواحل المتوسطية. و ما هو المطلوب في تونس مثلاً و كيف الحل بين معارض و موافق للدستور الجديد؟ كيف ستتحول المناكفات السياسية بين الأحزاب و الاتحادات و السلطة المنتخبة؟ هل ستحل محل الوداعة التونسية صيحات الحرب الأهلية لا قدر الله؟ في ليبيا المشكلة أعمق و عمقها نابعٌ من تعدد الجيوش و الانتقال السريع للاقتتال. بيئةٌ عصيةٌ على الحل الذي يضمن حصول المصالح المتعارضة التي كبتها الحكم الجماهيري على ما تعتقده حصصها الشرعية في الحكم و الثروة. في البلدين الاعتقاد الراسخ أن بقاء طرف يلزمه اختفاء الثاني. و هذه هي معادلة الحروب الأهلية التي تستمر برمي المواطن بالمصاعب حتى لو انتهت بهدنةٍ و اتفاقٍ كما الطائف للبنان.
و لا ندري مآل السودان الذي تتجدد فيه الاشتباكات القبلية الدموية وحرق الأحياء في مدن هي أصلاً تعيش على الكفاف و آخرها في ولاية النيل الأزرق. و قبلها دارفور. و قبلها الشرق المتوتر و الغاضب على الخرطوم. و في العاصمة حراكُ الكر و الفر بين المؤسسة العسكرية والمتظاهرين والأحزاب التي لا حول لها و لا قوة و لا تستطيع لليوم تحريك الصخرة العسكرية الصماء عن صممها أمام نداءات التغيير و العودة للحكم المدني. فهل من يتذكر أحدٌ رئيسَ الوزراء السابق عبدالله بحمدوك الذي استقر بالإمارات العربية المتحدة؟ هل سيقبل السودانيون بالحكم العسكري نزولاً على يأسهم من التغيير؟ هل سيلجأون لمعارضاتٍ خارجية تستقوي بالغريب على العسكر؟ و هل سترضى قيادات الحركات المتمردة السابقة و التي أصبحت في سودان ما بعد البشير حاكمةً للسودان، هل سترضى بمعارضةٍ تفعلُ بها ما فعلته بسودان البشير؟
و من الصعبِ على مصر المتطلعة لدورٍ ريادي في المنطقة العربية و الأوسطية و الأوروبية و الإفريقية أن لا تتحسب لليبيا و ما وراء ليبيا غرباً، و جنوباً في السودان و لغليان سيناء بالإرهاب غير معروف النكهة إن كان داعشياً أم وليد العشائرية، و لا أوضاعها الداخلية المؤججةَ أخبارها من محطاتٍ و إذاعاتٍ معارضة تتكلم مرةً بالتهويل و مرةً بالدليل عن الفساد و التبذير و تقييد الحريات في هجومها الذي لا يتوقف على انتقال مصر من حكم الإخوان للحكم الحالي الذي يصفونه بالانقلاب على الشرعية. و كيف لمصر أن تغفل عن حقوقها في النيل و معضلة اثيوبيا المستمرة؟ كيف لمصر الريادة بعدد سكان يتجاوز المائة مليون نسمة و مطالبهم الشرعية الإنسانية بالخدمات المدينية و الريفية و المستقبلية؟ و مصر هي قلب العرب و جندها هم المُحدَّثُ عنهم من رسولنا عليه الصلاة و السلام.
و كذا الشرق العربي حيثُ تبقى سوريا ملغمةً بالميليشيات و الانفصالات المناطقية و الاحتلالات التركية و الأمريكية و حوارٌ دستوريٌ يريد أن يمهد لحلول سياسية يقودها السوريون بأنفسهم لكن يريدها الغرب قاصمةً لظهر الحكم الحالي ذو النفس الطويل و الصبر و التمكن التدريجي. صعبٌ هذا التصور الغربي و أطرشٌ هذا الحوار الدستوري لليوم فالسوريون المشاركين فيه يقفون على ضفتين متناقضتين لبحرٍ عميقٍ من الفهم والتصور لسوريا المستقبلية. و فيما الإمارات و البحرين عادتا لعلاقاتهما مع دمشق تبقي قطر و السعودية خارج هذا الإطار. و لا يمكن إنكار البرود السياسي الأردني السوري و لا المصري السوري و هو ما يمكن إرجاعه لعلاقات سوريا مع إيران. أما اليمن فهدنته باقيةٌ لكن دون حلول سياسية إنما هي على أسس إنسانية لتمكين اليمنيين من التقاط الأنفاس و التنقل ببلادهم و خارجها. و إن عنت و نجحت الهدنة بالكف عن سفك الدم فلتكن طويلةً و إن لم توصلنا للحل السياسي المقبول. غير أن احتمال انهيارها وارد ليس فقط لاختلاف الأطراف اليمنية المستعصي و لكن للمصالح الإقليمية بين السعودية و إيران و الإمارات و الدول المستخدمة للبحر الأحمر و "إسرائيل" و لكُلٍّ منها رؤياها لما يجب أن يكون اليمن و ما يمثله للمنطقة و الحقيقة أن هذه الرؤى ستؤدي بالضرورة لاستعصاء الحل السياسي و لتطويل الهدنة انتظاراً له و يرسخ الأمر الواقع باليمن المنقسم. و في أقصى شمال الجزيرة العربية يقبع لبنان الذي لدى كثيرٍ من العرب هو مشكلةٌ مستعصيةٌ كاليمن و نفوذ إيران فيه عبر حزب الله. ولئن استطاع اللبنانيون التعايش مع الموزاييك السياسي فالعرب لم يهضموا هذا الواقع و ساهم بعضهم بزيادة مرارة العيش تعاضداً مع الغرب الذي حاصر لبنان و آذى اللبنانيين سواءً المعارض أو الموالي و الصالح أو الطالح. حزب الله العنيد هو في بؤرةِ الاستهداف التي قد تنفجر و مهمٌ هو للحد الذي يعقد للتعامل معه مؤتمرٌ أمني متعدد الدول و منهم عرب. كيف يريد الغرب أن يتخلص من حزب الله و أمل و مناصريهما و من باقي الحركات و الأحزاب المصنفة بالمقاومة؟ هل ستتبخر في الهواء؟ كيف لبعض اللبنانيين قبول هذا و التحريض عليه؟ هل يجوز كذلك تجويع اللبنانيين؟ و هل ليس لباقي اللبنانيين من قولٍ في شأن بلدهم إن اندلعت الحرب بين الحزب و "إسرائيل"؟ كيف هو الخلاص اللبناني في هذا "الكاليديوسكوب" المتغير دوماً؟
و فلسطين التي نحاورها و نجاورها دون مساس بالمشاعر و العواطف و الذكريات و الصور و الحواديت هي اليوم أبعد ما يكون عن كل هذا و منقسمةٌ للنخاع و ضحيةٌ للخلافات الفلسطينية الحزبية بل و العشائرية. و لا نخدع أو نكذب حين نقول أن فلسطينيين من النقب هم جنودٌ رسميون في الجيش الإسرائيلي. و يفخر هذا الجيش بلوائه الدرزي الفلسطيني. بل أن الذي قاد العدوان على غزة من هذا اللواء. و تضج المواقع و قصص الناس بالحديث عن التنسيق الأمني و سجن الفلسطينيين للفلسطينيين. واحدٌ يريدُ نفي الآخر. كمن يقطع نصف قلبه. هل يعيش؟
هكذا نرى العربي ضد العربي. نرى تعظيم الاختلافات والخلافات و تقليل الروابط كما نرى مواقف شبه مستحيلة من عربٍ تجاه عرب في وجودهم الحُكمي و شرعيته. و في بعض الأحيان الكثيرة نرى افتراقاً مذهبياً و غيرةً اقتصاديةً و تهكماً اجتماعياً بين الشعوب. نري وسوماً كالأوشام الدائمة و وصوماً معيبةً بحق زعيمٍ و رئيسٍ و مواطنٍ تزيدُ من حدة العصبية الفائرة بين العرب. كأن واحدنا و دولنا ينتظر الواحد منهم خطأ الثاني لينفجر فيه بالهجاء و التدابير المختلفة لتعذيبه وحتى العمل الدؤوب لتغييبه لو استطاع عن وجه الأرض. كل هذا هو عربيٌّ مِنَّا و فينا و لا نبالغ فيه فالأحداث أمامنا و التاريخ ملأته الحوادث.
لن يكون لإبليس مكانٌ في الجنة حتماً. و نعتصرُ ألماً من فقدان الأملِ لنا أن نعيش عرباً دون نواقض العروبة التي تطحننا. و ما أكثرها و أعمقها و أبغضها. و هي كفيلةٌ أن تمنعنا المقام المرموق في الدنيا وربما الجنة. واللهُ المستعانُ على مصائبنا.