إشكالية السيادة و الدفاع
تتطلبُ الاعتداءاتِ الصهيونيةِ المتكررة على سوريا وفي لبنان و سيطرتها على السماء اللبنانية و غاراتها على حدود العراق و سوريا و أحياناً داخل العراق أن نرفضها و نعترض عليها و ننادي بوقفها. كما ننادي بمقاومة الصهيونية، كمبدأ حياة لنا، إلى أن نتحرر منها ومن شرورها. و ننادي بسيادة الدول العربية على أرضها وعلى مقدراتها وثرواتها. و ننادي بتفاهمٍ عربي عربي و مع إيران و تركيا تقوده المصالح المشتركة دون اعتداء من واحدٍ على الآخر. و هذا يعني إنهاء حرب اليمن العبثية و التوغل في سوريا و إنهاء الخلافات المغاربية و الحدودية العربية المتعددة بين مثلاً السودان و مصر. ويعني إنسياباً للطاقة و المياه و العمالة و رأس المال العربي بين الدول العربية دون تعقيدات و بروح التكاتف و التكافل و المصلحة. لكننا نعلم أن هذا كله في هذا الزمان ضربٌ من الخيال الواسع الذي يراه الداني قبل القاصي من أضغاثِ الأحلام مع أنه الضمانة الوحيدة لمستقبلٍ للعرب إن أرادوا ذلك. و لكن ما معنى إقحام إيران و تركيا في هذا الخضم؟ قلنا سابقاً أن ما يجمعنا معهما كثير وأن التفاهم هو البديل لما يطفو على سطح العلاقات من خللٍ تراه الدول العربية من الجارتين و تراه الجارتين من العرب. و لأن التفاهم العربي الكلي معهما غير موجود، وفي أحسن الأحوال مقتصرٌ على علاقاتٍ ثنائية، فإن اللغط و سوء الفهم و الشك و التغول المتخيل والحقيقي صار سمةَ العلاقات و سُمُّها.
فمن الإشكاليات التي تعاني منها مجموعة الدول العربية وإيران وتركيا تشاكل مبدأ السيادة و مبدأ الدفاع عن النفس. و لا بد لنا أن نعترف أن سيادة بعض الدول العربية باتت منقوصةً بالمعنى الحقيقي الفعلي لقدرة الدول الدفاع عن قرارها و أراضيها. ولذلك نجدُ في قصفِ أربيل، و إيران قد اعترفت بذلك، انتقاصاً للسيادة العراقية. لكنها قالت إنه الرد على الاعتداء الصهيوني الذي قتل عنصرين من حرس الثورة في سوريا وعلى تواجدٍ صهيونيٍ استخباري عملياتي يهددها من العراق. لكن لماذا لم ترد إيران على الصهيونية في الداخل الفلسطيني المحتل؟ سؤالٌ وجيهٌ و بسيطٌ و له أكثر من إجابة و أكثرها شيوعاً هو الرد المتناسب و الحدث و عدم الرغبة بحربٍ مع إسرائيل. لا نبررهُ و لا نساوي بينهما لكننا قطعاً نقولُ أنهُ عندما اعتدت إسرائيل على سوريا و قتلت مواطنين من إيران فقد استباحت السيادة السورية و عندما ردت إيران في العراق فإنها استباحت السيادة العراقية! لكن نقولُ أيضاً أن السيادة العراقية تمر بأزمةٍ أكبرَ من هذه الاستباحة و لم ينتج عنها الاستنكار الذي نالته الغارة الإيرانية. الدليل يستندُ على حقائق والحقائق هي:
أن تصول و تجول القوات الأمريكية بصنوفها في العراق بلا ممانعٍ حقيقي و عبر حدوده تنتقل لسوريا بقواتها و عتادها انتقاصٌ للسيادة. وهي باعترافها اغتالت قاسم سليماني في بغداد و هو اعتداءٌ على السيادة. إن كان وجود القوات فيه بعضُ المبررات لاتفاقٍ بين العراق والولايات المتحدة، فإن الاغتيال هو جريمةٌ واضحةُ المعالم و لا تغطيها اتفاقيات. إلا حكم القانون الذي بالطبع تتملص منه القوات الأمريكية باستمرار و هو خرْقٌ للسيادة بكل المعايير. و لم تستطع الدولة العراقية منعها أو محاسبة مرتكبيها و لن تستطيع. للعلم، أمريكا و إسرائيل ليستا عضواً في المحكمة الجنائية الدولية لأنهما لا تعترفان بسيادة قاضٍ على رعاياهم. و لم يكن قاسمي و زميله العراقي أول المقتولين و لا أهمهم في سلسلة القتل التي طالت العالم و السياسي و القائد والكاتب العراقي في العراق. و كلها انتقاصاتٌ خطيرةٌ للسيادة.
إن "كردستان" العراق هي دولةٌ داخل دولة لها جيشها و حدودها و مخابراتها وصلاتها الخارجية و ليس لبغداد عليها من قولٍ أو قرار. و من الأراضي التي تسيطر عليها تنتقل القوات و الأعتدة الأمريكية لسوريا المحتلة في الشمال الشرقي الذي تسيطر عليه رديفتها "قسد" المدعومة للثمالة من أمريكا. و عبر الحدود تنتقل الصهاريج النفطية في رحلةِ تسويقٍ لثرواتٍ مسروقة من سوريا تُباع دون تدخل الحكومة العراقية في بغداد. فما هي هذه السيادة؟
و تستمرُ تركيا في فرضِ أمرها الواقع في الأراضي العراقية بهجماتٍ برية و جوية و بتمركزٍ داخل العراق باسم الدفاعِ عن النفس. كما أن احتجاجات العراق لا تلقى إلا الآذان الصمَّاء في أنقرة.
و بموازاة القوات العراقية الرسمية تتواجد قوى عراقية متعددة ولائها أساسه الطائفية. لا يساعد وجود جيوشٍ طائفية على ترسيخ مبادئ السيادة أبداً.
إن إيران هاجمت في العراق دفاعاً عن النفس أو انتقاماً لكنها بالفعل اخترقت السيادة العراقية. و تركيا في سوريا تفعل الشيء ذاته. و كثيرٌ يقول أن روسيا تستبيح سيادة سوريا و سوريا تقول أن وجود الروس هو قرارٌ سياديٌ للدفاع عن النفس. و في العراق قواتٌ و قواعدٌ لأمريكا و يحظى هذا الوجود بالمقالِ نفسه عن نقص السيادة والقرار السيادي. هل نلوم العراقيين و السوريين و قد مرت بلادهم بالويلات فمانعوا ثم أُجبروا على هذا الحال؟ هل نلوم الأكراد و قد عانوا هم كذلك إلى أن توصلوا لمحاصصةٍ خسرَ فيها المركز؟ أم نلوم إيران و تركيا للدفاع عن نفسيهما كما تقولان؟ نحن نلوم الفِعْلَ و القبولَ بالاستباحة لأي سبب و من كل لون و من أيما إتجاهٍ أتت. و نلوم في داخلنا الطائفية و الأعراق ونبذ الآخر التي تستولدُ جيوشاً في وقتٍ ينبغي فيه للدولةِ الحاضنة أن تحتوي الجميع.
ولكننا نلوم، في قضية أربيل، "كردستان" العراق أكثر لصلاتها المريبة بالصهيونية. قبل أشهر اجتمع دعاة التطبيع هناك و قامت القيامة الرافضة في باقي العراق. و من ثم ذابت القيامة! ألم يكن الاجتماع دعوةً و جس نبض؟ كانَ قطعاً. هل يعقل أن يحصل دون موافقة رسمية من سلطات "كردستان"؟ لا يمكن. العلاقات الكردية الصهيونية لم تنقطع منذ عقود و هدفها كان للأكراد الاستقواء على بغداد و للصهاينة تقويضها. بين ١٩٩١ و ٢٠٠٣ اكتمل الحلم. هل نستغرب أم ننكر وجوداً صهيونياً كاملاً في "كردستان" العراق؟ حتماً لا، و إيران كما العراق تعرفان ذلك. هل ليس هذا الوجود انتهاكاً للسيادة العراقية؟ بالقطع. لا وجود لفرقٍ بين انتهاكٍ و آخر إنما هي زاوية اعتبارك له و مدى قدرتك على رفضه. لا تبدو بغداد بقادرةً على الرفض و لو أرادت ذلك فأمريكا وإيران و"كردستان" أقوى. و إلى أن تقوى بغداد عليهم فلن يكون لها إلا السيادة الناقصة.
و تستمر القصة في سوريا مع "قسد" التي بمعونةٍ و حمايةٍ أمريكية تُنشِئُ دولةً لا تستطيع سوريا التعامل معها إلا بحذرٍ ينتقصُ من سيادتها. في حين تركيا لا تجد حرجاً أن توجه قوتها ضد "قسد" متحديةً سيادة سوريا و مكتفيةً بمبدأ الدفاع عن النفس. كما فعلت إيران في أربيل. و كما فعلت أمريكا عندما اغتالت قاسم سليماني و رفيقه العراقي في بغداد تحت مُسمى تهديده لأمنها القومي. و كما تُدارُ حرب اليمن باسم السيادة و الدفاع عن النفس من كل طرف. إن مبدأي السيادة و الدفاع عن النفس قد يقودان لانجراف دولٍ عربية و محيطة، مثل الحبشة، أو السنغال، أو تشاد وجنوب السودان لحروب مُحبطة سواء كانت الأسباب مبررةً أم لا.
لا يوجد سيادةٌ منقوصة و لا ظرفية. وتحتاج السيادة لقوةِ دولةٍ تحميها. يكمنُ الخلل الأساسي في ترددنا للتفاهم العربي و هو واجبنا الأول كعرب؛ و الخلل الثاني هو في الاستقواء علينا بأشكال الانتهاكات التي نسكت عنها. الخللين يحتاجان حكمةً للوصول للتفاهم العربي و التفاهم مع الجيران من مبدأ القوة العربية متعددة الوسائل. و حتى ذلك الحال فإن انتقاد انتهاك السيادة سيكون مهزوزاً بفعلِ باقي الانتهاكات المسكوت عنها و بِفِعلِ مبدأ الدفاع عن النفس الذي تمارسهُ الدولُ علينا في بلادنا و لا نستطيع صدها عنه لضعفنا من واقعِ تفرقنا و فرديتنا.