إنصاف

"إنصاف" هو اختصار الاسم الذي تطلقه دولٌ راعيةٌ لبرنامجٍ جديدٍ لإرسال المعونات الإنسانية عبر الحدود الدولية من تركيا و العراق لسوريا، شمالها الشرقي و الغربي. الإسم الكامل هو "صندوق المساعدات المؤقت لشمال سوريا" و بالإنجليزية

 

"Interim North Syria Assistance Fund - INSAF”

 

اللعب بالإيحاء على الأحرف ليس جديداً و كما هو واضح فالمعنى حين تجمع الحروف الأولى لإسم الصندوق بالإنجليزية إن قُرِأتْ عربياً هو الإنصاف و العدل في مقارنةٍ تستهجنُ قرار مجلس الأمن الذي بالضغط الروسي مدد مرور المعونات الإنسانية لسوريا من تركيا و عبر مركزٍ حدوديٍّ واحد لمدة ستة شهور بدلاً من اثنتي عشر شهراً كما سعت الدول التي تبنت القرار. روسيا تتمسك بإلحاحٍ بإمكانية إيصال المعونات من الداخل السوري، وهو ما ترفضه مجموعة الدول المانحة و لا تقتنع بجدواه الأمم المتحدة،  و روسيا تدافع عن الحق السوري في السيادة ووحدة الأراضي السورية و لكنها مستعدةٌ للتنازل عن هذا الحق في خضم لعبةِ الأمم التي مسرحها سوريا. مؤيدي نقل المعونات عبر الحدود، و هم كبار المانحين ومنظمات غير حكومية والامم المتحدة، يتمسكون بحاجة السوريين الماسة لهذه المعونات و أن تصلهم دون شروط و ضغوط و هم متفقون أن الحكومة السورية ليست بوارد إرسال معونات غير مشروطة بل ومقيدة، وأن مسألة السيادة تمت معالجتها بالقرارات نفسها التي تؤكدها و تنص أيضاً على مبدأ إنقاذ الإنسان السوري من ويلات النزوح و الحرب الأهلية و حقه في العيش بأمان خارج نطاق الدولة و في تلقي المساعدات الدولية و لو من غير رضى الدولة السورية. هم لا يُعيرون مسالةَ السيادة شروى نقير و باستخدامِ مُبرراتٍ عديدة يتجاوزونها بالقوة. و سوريا غير قادرة على تأمين سيادتها لوحدها و لا الروس سيساعدونها و لا الإيرانيين كذلك. في دوامة السيادة و المعونات الإنسانية تبقى المصالح سيدة الموقف و مُحَرِّكَ وكابحَ الرغبات و المصالح.

 

من عايش و تعامل مع موضوع المعونات الإنسانية في سوريا يعلم تمام العلم أن للطرفين في هذه المسألة تحديداً حجةٌ وافيةٌ. بالقطع، يمكن للمعونات أن تصل من الداخل السوري و لكن ليس من غير شروط تضعها الحكومة السورية و تلتزم بها الأمم المتحدة. كما المساعدات التي تعبر من تركيا و المقدمة حصرياً من الأمم المتحدة فهي تخضع لشروط و تُرسلَ تفاصيلها بعد التدقيق من الأمم المتحدة في الحدود التركية للحكومة السورية عبر ممثل الأمم المتحدة في دمشق. الفروقات بين الوسيلتين هي في الشروط التي تضعها الحكومة السورية و تصنفها الأمم المتحدة بالقاسية مما يجعل نقل المعونات في الوقت المناسب وإلى الأمكنة المحتاجة شبه مستحيل و يُبقي العملية خاصعةً للقرار الحكومي السوري. خلال فترة عملي كانت الحكومة ترفض نقل بعض المواد لمناطق التمرد و منها معدات الجراحة الطبية وأدوية التخدير. هذا الشرط لا ينطبق على ما يردُ من تركيا فللأمم المتحدة حريةً لنقل المعونات لا تُقيدها الحكومة التركية كما تفعل السورية. و تشمل الفروقات كذلك أن المعارضة السورية ترفض ما قد يرد من الداخل السوري نتيجةً كما هو واضح للخلاف السياسي، و لماذا لا ترفض و المعونات تتدفق عبر الحدود دون كثير تدقيق. لكن مساعدات الأمم المتحدة ليست العمود الفقري الذي يستند عليه المواطن السوري النازح و المقيم في مناطق لا تخضع للحكومة. بل أن ما يردُ من خارج نطاق الأمم المتحدة، من منظماتٍ حكومية وغير حكومية و عبر التعاملات التجارية، هو الأساس. و لا نذيع سراً عن توريد السلاح بأنواعهِ و هو بالطبع خارج بند المعونات لكنه ينتقل عبر الحدود الدولية لتزويد الحركات المتمردة و الأكراد باحتياجاتهم العسكرية. و لهذا ابتعدتْ كما قيل الأمم المتحدة عن المشاركةِ في "إنصاف" كون الصندوق المزمع غير مُتفَقٍ عليه في الأمم المتحدة.

 

من غير الواضح متى سيتمُ تفعيلَ "إنصاف" رسمياً من طرف مموليهِ لكن هذا فيهِ مُجافاةٌ للحقيقة لأن الحركة عبر الحدود لم تتوقف يوماً بقرارِ الأمم المتحدة و بدونهِ. كما أن المانحين و منذ سنين يمولون خارج نطاق خطط الأمم المتحدة الإنسانية برنامجاً خاصاً لتنمية و مساعدة الشمال السوري بلغ حجم تمويله مئات الملايين من الدولارات. بل و أن منظمات الأمم المتحدة الإنسانية تنقل موادها الإغاثية من حلال منظماتٍ غير حكومية و من معابر حدودية لم تُشْمَلْ بقرار مجلس الأمن، و تحديداً من اليعربية على الحدود العراقية. وربما ستسمحُ روسيا بتمديدٍ للقرار الحالي لستة أشهر ثانية بناءً على مُعطياتِ لعبة الأمم مما قد يُؤَخِرُ الحاجة لإشهار "إنصاف". إنما الواقعُ الحدودي لن يختلف كثيراً فالحركة كما قلت مستمرةٌ عبر منافذ حدوديةٍ متعددة بين سوريا و العراق و تركيا. على جانبها السوري الحركة الكردية و حركات سورية متمردة من الحسكة و لإدلب و حلب هي على وفاق و كل حسب انتمائه مع القوات التركية والأمريكية بما يسمح للقوافل بالتحرك جيئةً و ذهاباً وبما يمكن حمله من معونات إنسانية و تجارة عامة و نفط وسلاح و مسافرين. سواء رضيت دمشق و موسكو و بغداد أم رفضت.

 

لكن لزوم السياسة هو التصعيد العلني بمجلس الأمن لإعطاء الشرعية لمعونات الأمم المتحدة العابرة للحدود الدولية دون موافقةِ الدولةِ المعنية و هي سوريا و التي تتدثر بها، أي الشرعية، باقي الجهات لإدخال المعونات و غيرها من مواد. و للأسف فإن تسييس الأزمة الإنسانية السورية حدثٌ لم يتوقف منذ بدء الحراك السوري و خلال تطوره لحركاتٍ متمردة و تصاعده حرباً أهلية و من ثم انتزاعاً لأراضٍ سورية هي اليوم تحت سيطرةٍ أجنبية. سوريا اليوم دويلاتٌ بحدود و قوانين تتعامل معها الأمم المتحدة و جموع المانحين من منطلق الأمر الواقع أو ما تُصَيِّرُهُ واقعاً. سوريا لم ترضَ يوماً عن معونات عبر الحدود و كنتُ كما غيري ممن عملوا بدمشق نسمعُ الاعتراض السوري بانتهاك السيادة و تهريب المساعدات لغير مستحقيها. و لم يكن لنا، أو لي للعدل، و لا لسوريا القدرة على تعديل أو تغيير الواقع. فسوريا لا تسيطر على حدودها مع تركيا و العراق في الشمال و لا معوناتٍ من داخل سوريا لهذا الشمال، تحديداً في إدلب و حلب،  بسبب شروط سوريا ورفض الحركات و اعتراض المانحين، فلا يبقَ إلا المعونات من خارجها تأتي بقضها و قضيضها.

 

و لهذا، أتتْ "إنصاف" أم لم تأتِ فإن خرق الحدود السورية حاصلٌ بالفعل، بِشرعيةٍ من الأمم المتحدة تكرهها دمشق و تداورها موسكو، أو بِشرعيةِ الدول المتغولة على سوريا مُتذرعةً بمحاربة الإرهاب أو حماية المدنيين. و في ثنايا هذا الاختراق المعونات الإنسانية التي تساعد المدنيين والمسلحين و عوائلهم على حَدٍّ سواء و بِعِلْمِ الجميع. و في سوريا انفصامٌ سياسيٌ و اقطاعياتٌ منفصلة. و هو واقعُ اليوم و لن يتغير الواقع إلا إن تغيرت السياسات وهو مطلبٌ قد يطول في أيِّ اتجاهٍ كان. و إلى أن يتحقق واقعٌ سياسيٌ يُوَحِدُّ سوريا من جديد و يسمح لمواطنيها بالحياةِ الطبيعية فإن ملايين السوريين سيحتاجون المعونات و سيتلقفونها من أي ركنٍ من العالم تصلهم. لكن الإنصافَ هو أيضاً بتمكين السوريين في سوريا الدولة من الخروج من دوامات الفقر الذي تخلقه سياسات الحصار الخارجية و جشع الفاسدين الداخلي. و الإنصاف هو في التوقف كذلك عن تسييس العمل الإنساني والتنموي الذي يُكبِلُ الإنسان و يمنعهُ من تغذية وتنمية مجتمعه و تحقيق المَنَعَةِ المنشودة. كل هذا يجعل من "إنصاف" حركةً مكررةً في اللعبة السياسية التي تتحكم في الوضع الإنساني والتنموي في سوريا.

 

 

Previous
Previous

(١) إيران و إسرائيل و الجزائر

Next
Next

إشكالية السيادة و الدفاع