السلام من القوة

يلفت الانتباه كثرةَ التصريح أن السلام يتبع الحروب.  و هو ما درجت عليه الحروب و نادراً ما يتحقق السلام بشروطٍ تُرضي الطرفين، خاصةً المهزوم. لكن كيف يكون سلامٌ في فلسطين و محاجرَ عيوننا تنبع دماً بالحرب و بدونها؟ كيف و الوعي العربي الوطني الذي لا يكاد العدو يقول أنه دفنهُ حتى يعودَ مشرئِّباً يشدو للتحرير؟  كيف والصهيونية و الغرب يعلنونها حرباً بلا توقف؟  كيف والعدو يترصدنا في مقومات الحياةِ؟  هل لم تكن التقنية الصهيونية حاضرةً في سد النهضة الحبشي؟ هل لا يعملون لتحييد قناة السويس؟ هل لا يتحكمون بماء و غاز الأردن؟ بلى و زيادة مما لا نعرف و يعرفه بلا شك قادة العرب.  نفهمُ و نعلم أن المجابهةَ العسكريةَ لها أثمانها الباهظة و لكن كذلك هي أثمان التجويع والتعطيش دون حروب، في السلام.  و نفهم أن المعاهدات يجب أن تُحترم لكن الاحترام لا يكون على حساب مستقبل الأمم.  ثم إن مبدأ السلام، و أعلم أن هذا صار من قديمِ الحديث، لا يقوم بالمعاهدات مع غاصبٍ نعلم كيف اغتصب بلداً و طرد أهلها. فهل بعد هذا حديثٌ عن سلام؟

 

و لنفترض أن سلاماً سيحدث فمع من هو و السلام المهلهل بائنٌ مع كل شهيدٍ و جريحٍ و أسيرٍ و منزلٍ مقتحم و مهدم في الضفة الغربية؟ و بشروط من سترضى الصهيونية سلاماً في غزة إلا بشروطها؟ فإن كان السلام مع غزة فلن يكون إلا بعد تنفيذ الوعد باجتياحها والقبض على قادة المقاومة. و من هي السلطة الفلسطينية في غزة التي ستفاوض على سلامٍ وهي مهزومةٌ؟  و إن كانت "السلطة الفلسطينية" هي المفاوض فما هي أوراق القوة التي بيدها؟ و ما هي أوراق القوة التي بيد مصر و الأردن و قطر و تركيا إن تقدمت لمساعدة المفاوض الفلسطيني و هل من أملٍ أن يحقق هذا نجاحاً و سلاماً أفضل من سلام الضفة؟

 

الأقوياء بالسلاح فقط هم الذين يفرضون السلام العادل. و الذين يتغنون بنيلسون مانديلا و المقاومة الشعبية السلمية ينسون أن حزب المؤتمر الإفريقي كان منجلاً يجز الرقاب العنصرية.  و لم يجبر الأمريكان للتفاوض مع ڤييتنام إلا خسائرهم و قد خرجوا منها متشعبطين بالطائرات العمودية.  و إن كان مثال طالبان ليذكر فالخروج الأمريكي الغربي من أفغانستان على ما يشوبه من غموض كان ذليلاً.  إنها شعوبٌ و قياداتٌ قالت لا و فعلت فخضع لها التاريخ.  السلام يأتي من قوةٍ تستعملها ضد الظلم لتنتصر.  هكذا يقول التاريخ. 

 

و هكذا إذاً أفهم.  أننا حين نطلب السلام دونَ مظاهر قوة نستخدمها و العدو يدرك عجزنا أو رغبتنا في عدم استخدام القوة بينما هو يستعرضها فالإدراك أن سلاماً نطلبه سيكون وبالاً في شروطه لأنه سلامهُ هو العدو و استسلامنا.  هذا إذا افترضنا أن القوة هي قوة عربية و لن تستخدم.  و إن افترضنا أن القوةَ غير عربيةً بمعنى قوة الدول وأن غزة ستُتْرَك لمصيرها و أن محور المقاومة، المدعوم إيرانياً، لن يتدخل للحسم فهذه هي نهايته محوراً و فلسفةً. و إن افترضنا استخدام القوة العربية و المحورية فيجب أن تتفق على استراتيجية نعلم أنها غير موجودة و لا متوقعة. و إن كانت قوةً من غير تنسيق فيجب أن تنتصر هذه القوة من أول ضربة وإلا فالبديل لن يكون سلاماً بل فوضىً وبيلةً من قبيل ما نراهُ من احتشادٍ غير مقبول و لا مفهوم من حركاتٍ عراقيةٍ على الحدود الأردنية ضاغطةً لفتح الطريق لها لتحارب و هو محضُ هراء فالحروب لا تُخاض بالعنتريات الجوفاء.  فهل نحن في هذا الوارد العظيم من انعدام التنسيق و سيلِ التضحيات على كل المستويات؟ لأن الصهيونية و من معها سترمي بما عندها من سلاحٍ و ربما حتى السلاح النووي لضمان انتصارها، فهل عندنا ما يمنعها؟ و هل عندنا ما يقينا غلواءً همجيةً ستصيبنا؟ أكثر من سؤالٍ يُسئلُ عن الحربِ و السلام و تبعاتها و شروطها.  و نحن قاصرين فعلاً عن معرفة إجاباتٍ واضحةٍ لها.

 

نفورُ و نثورُ و نحنقُ و نلعنُ و نبتهلُ و تدورُ في عيوننا الدموع و نرجو و نستغرب و نستهجن و نعودُ لما بدأنا بهِ.  نحن في السلام مغلوبين على أمرنا و في الحرب غير مُعَدِّينَ للتضحيات.  كانت أُميِّ تقول "ساعةٌ من ساعاتهِ تقضي حاجتهُ" و أقولُ قولها، فيا ساعةَ الله أَهِلِّيِ.  يا ساعة العدل. يا ساعة النصر. يا ساعةَ شفاء الغليل.  فقد عجزنا.

Previous
Previous

العقلانية الدبلوماسية العربية القاصرة

Next
Next

عصابة السفير دينيس روس