التاريخ غدَّار

توقعت أن تأتيني مقالتي "ما بعد غزة:الواقع الأليم" التي نشرتها "الرأي اليوم" قبل يومين بالتعليقات الصادَّة للتحليل. العواطف المتأججة لا ترضى أن تسمعَ ما يسوء آمالها. و بصدرٍ رحبٍ تلقيتها، و أفهمها من متابعين مخلصين، مثلي هم آملين و تواقين للنصر، و لكنهم غيرَ ناظرين لجوانب واقعية في الصراع يجب التأمل فيها و التحسب منها.  مثلكم صحوتُ على سيرة التهجير و الانتكاسات.  رأيتُ و أنا طفلٌ متظاهرين ضد أطماع عبدالكريم قاسم في الكويت، و مسيرات الولاء للجزائر و نكسة ١٩٦٧ و حرب أيلول بين إخوة الدمِ و الشماغ و السلسلة الطويلة من المعارك و الحروب و الاغتيالات و الغزوات و الانهيارات و التغييرات الجسام في بنية المجتمعات و الدوران للاتفاق مع الصهيونية و انبعاث النار من رماد غزة ومدن فلسطين و الجنوب اللبناني. كما رأيتُ مآسٍ لا تعد و لا تُحصى في عيون مشردين عرباً مسلمين ومسيحيين في بلدان عربية عديدة و في الخارج.  حتى حرب العاشر من رمضان التي بدأت بانتصار انتهت كما الجميع يعلم بالخيمة ١٠١ و بمفاوضاتٍ شاقة أرست الطريق للسلام بين مصر و"إسرائيل". كلها كانت في النهاية خيبات أملٍ لنا و توسعاً غير متوقع للصهيونية.  فهل نُلامَ إن افترضنا الأسوأ الآن؟

 

جواب هذا السؤال يعتمدُ على نظرتنا للصراع مع الصهيونية.

 

أؤمنُ بحقيقتينِ، أولاهما أن فلسطين لنا و يجب تحريرها و إبعاد الصهيونية عن كل بلادنا. وثانيتهما أن المعركة هي بين الحق والباطل، دينياً.  متعلقاتٌ عديدة ترتبط بهاتين الحقيقتين و تشعباتٌ تفرضها حالة العالم الذي نعيش فيه.  الصهيونية و الغرب المستعمر نجحوا في خلق "إسرائيل" و تقويتها و ربطها دولةً بمنظومات العالم المتشابكة علي كل المستويات ومن ثم بإقحامها تطبيعاً مع العرب عبر عديد الوسائل التي أقنعت العرب بالسلام المنفرد و المنفعة الذاتية منه و نفورهم من مسؤوليةٍ نحو فلسطين المحتلة بشكلٍ جماعي.  حتى الفلسطينيون قبلوا بهذا.  أما المعارضون المقاومون الفلسطينيون فهم يقفون فُرادى أمام هذا الزخم القائل بالسلام مقابل نسيان فلسطين و الذابح للسلام لأجيال قادمة.  و لليومِ في هذه الحرب الفلسطينيون المقاومون يقفون هكذا، فُرادى، رغم ما يقولهُ الحلفاء عن تدخلهم فيما لو حصل كذا أو ذاك.  الصهيونية تذبح الفلسطينيين في غزة ذبحاً جماعياً و في باقي فلسطين افتراساً فردياً.  لكن هذا لا يحركُ سلاحاً عربياً واحداً ذا قيمةٍ بما يردع الصهيونية.  فهل عقلانياً ستستطيع القوة المحاصرة في غزة أن تنتصر علي الصهيونية و المؤازرين لها دونما مددٍ مؤثر من العرب؟

 

أما أنه صراعٌ دينيٌّ فهو كذلك لأن فلسطين ليست رمزاً مقدساً للمسلمين بل لليهود و المسيحيين، و بتجردٍّ فإن كل دين يؤمنُ انها له و من يملك القوة يملك القدس. نحن نملك الحق و لا تنقصنا القوة بل الإيمان و الإرادة.  أؤمنُ إن القدس تحت الراية المحمدية ستكون آمنةً و رخاءً للجميع و هذا يعني تمكن العرب و المسلمين من الاستحواذ علي القدس و لا يمكن حصول هذا و الصهيونية تحتل القدس و لا تنوي التخلي عنها ومعها الغرب الحامي و نحن لا نفتأ نتكلم عن قدسٍ مقسمة في دولتين.  و يقف ضد الأمل بعودة السيطرة الإسلامية حقيقةَ التشرذم الإسلامي الطائفي و اللاملتزم بهذه النظرة.  بكل وضوح، إسلام مقاومة غزة ليس إسلامَ السلطة الفلسطينية المهادن و ليس إسلامَ الشيعة الذي يخشى السنة من تقيتهِ و أعلمُ أن هذا لا يعجب الكثير لكنه الواقع الأليم والشك الغميق.  و ظننا أن محور المقاومة قد حَيَّدَ الخلاف الديني الطائفي علي أساس أن العدو واحد، و نحن ننتظر نتيجةَ هذا الاتفاق، فهل هناك مثلاً عدداً للشهداء الفلسطينيين و اللبنانيين إن وصلنا إليه ستنطلق المعركة الكبرى؟ أم أنه خطٌ جغرافي و اجتياحٌ بري؟ أم تحطيم المطارات المدنية؟ لا ندري ما هو الحدث الذي سيقود لمواجهة تشفي الغليل و تبشر بالنصر.

 

و هل محور المقاومة قادرٌ علي المواجهة دون عمق عربي و إسلامي يسانده عسكرياً و بالمجالات التي يحتاجها المقاتل؟ كلنا نتمنى هذا و أن نرى الأمة تشد أعضادها ببعضها.

 

أتمنى أن تكون المقاومة قد احتاطت لهذه التعقيدات.  أتمنى أن تؤلمَ الصهيوني لدرجة هروبه من فلسطين. أتمنى نصراً حاسماً.  و لكن ما نيلُ المطالب بالتمني، و تؤخذ الدنيا غِلاباً.  فكيف نأخذها غِلاباً و نحن عرباً و مسلمين في هذا الحال؟ 

 

Previous
Previous

حقدٌ صهيوني و أنا عربي: أكونُ أو لا أكون؟

Next
Next

ما بعد غزة: الواقع الأليم