الهباءَ العربيِّ المنثور
من آذار ٢٠١١ لأَيَّار ٢٠٢٣ مُرِّرَتْ سوريا عربياً و دولياً في دوَّاماتِ القطيعةِ و الحروبِ و السياسةِ الماكرةِ و الاستحواذِ الإحتلالي ثم التواصل الخفي و البائن و إلى ما أطلقوا عليه مُسَمَّى العودة. عودةَ مَنْ لِمَنْ؟ لماذا كانت هذه الحربُ الشاملة، ثم هذه الحملةَ الأنيقةَ، و لم يتحقق للعرب مما راهنوا عليهِ في سوريا و لا لسوريا سوى الخراب؟ خاضَ العربُ حرباً في سوريا، معظمها في بندِ التمويل و التهويل الإعلامي و الضخِّ الدَعوي، ثم عادوا ليصالحوا حكمها و توجهها السياسي الذي ادَّعوا عليهِ باللاشرعية؟ لو أفردنا لهذا السؤال إجابةً على هيئةِ ميزانيةِ مؤسسةٍ لكانت نتيجةَ المقاصة الخسارة الواضحة للعرب. كما هي لسوريا. فهل لم يكن هناك عاقلٌ يقول أن خوضَ العرب بدمائهم لا نتيجة لهُ سوى الخراب؟ و هل طَمَحَ العرب مثلاً لأن تصبح سوريا بعد حملتهم عليها واحةً في صحراءهم ترفدهم بالديمقراطية و الحريات و الرخاء؟ أولم يدركوا أن البديل لسوريا كان سيكون أكثر جاهليةً في تناول البلاد و العباد من طالبان أفغانستان؟ و أن امتداده لبلدانهم لم يكن إلا مسألة وقت؟
و لنكن أصحاب مبدأ و كلمةَ حق فنقول أن الحكمَ السوري لم يكن يوماً ديموقراطياً و لا كان جهاز أَمْنَهُ مؤتمناً إلا على صيانة الحكم و الحاكم، و لا كانت النزاهة قائدةَ مسيراتهِ. فالفساد كان ويبقى ضارباً أطناباً عميقةً فيه والمواطن بالسليقة اللطيفة و الخبيثة كان مرتاحاً، مناورةً و مغصوباً، التعايشَ مع حكمٍ رآهُ معظم السوريين منحازا لأقليةٍ ولكن الشعب رضي بمعادلةٍ توزعت فيها المنافع. و أغلبية السوريين كانت تعيش ليومها وغدها كما باقي البشر العرب طالما ابتعدت عن الاصطدام بدواوين الحكم و الحاكم. و بنفس مبدأ وكلمة الحق، فلنبحث عن دولةٍ عربيةٍ ليس فيها أمراض سوريا. قد تتفاوت درجات السوء بينها لكنها دولنا العربية تلتقي على قواعدِ حماية الحكم و الحاكم و سواد الفساد الأرستقراطي و الشعبي، و الطوائفية فيمن يعلو و من لن يعلو. و إذا عَبَرَ أحدهم الفاصلَ السياسي أو الأمني أو الطبقي أو تجرأ بالملامة العلنية فلسوف يلقى صعوبةً لم يعهدها وربما ذاقَ قيود السجن. الفارق بين الدول العربية هذه وسوريا ليس في التناول الداخلي للمواطن و طريقةِ سوقهِ للخضوع بل في الغالب هو في درجة الانحناء لمتطلبات سياسةٍ خارجية. تتناسب درجةَ الانتقادِ و الضغطِ الخارجي على الدولة العربية عكسيٍّا مع قبولها متطلباتِ السياسة الخارجية فكلما قبلتها انخفضت الضغوط و كلما قاومتها ازدادت. الاستنتاجَ الذي قد نَصِلَهُ أن سوريا ضُغِطتْ و عوقبت لرفضها الانحناء و لَمَّا لم تستوعب الدرس لم يكن من بديلٍ إلا تفجيرها من داخلها.
بعضُ التاريخ المُعلن يقول هذا عن سوريا، أي أنها لم تقبل بما كان يقبلهُ غيرها. أو أنها غالت بمطالبها مقابل القبول مما أفسد العلاقات. و كثيرٌ من التصريحات العربية و الغربية يقول أنَّ سَوْقَ سوريا للحرب كان مخططاً له. بل أن الإعلام المرئي مليئٌ بقادةٍ عسكريين و سياسيين عَرَباً و أجانب يقولون أن سوريا كانت من الدول المُبَشَّرةِ بالتخريب و لذلك، في معمعةِ ما بدا عصياناً شعبياً و احتجاجاً، تم دعم و تقوية كل معارضٍ ضد الحكومة بما يحتاج لتخريب بلده، و لا يزال المعارضون يتقمصُّونَ الدور و الآلية و الهدف لليوم. في عام ٢٠١١ كانت سورية وحدةً واحدة على عِلاَّتها الاقتصادية و التكوينية، مثل باقي الدول العربية متوسطة الدخل، و في عام ٢٠٢٣ هي ليست كذلك على كل مستوىً باستثناء المستوى السياسي و التمكن العسكري و الأمني العابرينَ لهذه الأزمة بِفضلِ روسيا و إيران و حزب الله. فما الذي رُفِضَ من سوريا ذاك الوقت و بُذِلَتْ دونه البلايين واليوم يُقْبَلُ و الحكم و الحاكم السوري و العلم و الراية لم يتغيروا كما أراد الغرب و الشرق؟ هل يقبلَ عقلٌ واعٍ مقولةَ أن الأذى الذي يأتي من سوريا اليوم بهيئةِ مخدراتِ هلوسة هو الذي يدفع العرب لها لكي تُقفلَ تجارة الموتِ هذه؟ و إن كان الهدف فَصْلَ التوأمةِ السيامية السورية الإيرانية فهل لم يخجل من التحقيق هذا الهدف بعد الزيارة الرئاسية الإيرانية لدمشق و توقيع اتفاقيات تحالف راسخ؟ و هل لم يرَ العرب هذا الجهد الروسي الإيراني الهائل لِلَمِّ الشمل السوري التركي على قاعدة تحييد الجيوب الكردية و الأمريكية في سوريا؟ فماذا يبقى للعرب العائدين لسوريا من أهدافٍ فيما سوريا كما يبدو كفيلةٌ بإدارةِ شأنها مع روسيا و إيران؟ و هي لن تعطي بالسياسة تنازلاً لم تعطه طوال سنوات الحرب، مما يُشَكِكُ بمقولاتٍ أن الوصول لحل سياسي لأزمتها هو ثمن العودة العربية.
الجوابُ مُحَيِّرٌ كيفما تخيلناه. لا أعتقد العرب يريدون سوريا لدعم الصمود و التصدي للصهيونية. و لن يستطيعوا استبدال روسيا و إيران. و قد ينجحون في لجمِ شحنات المخدرات. و قد يستفيدون من فتح الطريق للشاحنات التجارية العابرة خلال سوريا من و إلى تركيا. و لن يستطيعوا ثني الغرب عن كراهية سوريا و لن يقدروا على اجتراح الحل السياسي لها لا فضلاً و لا جبراً. لكن الإرْثَ الذي تركتهُ الحرب لا ينمحي بهذه العودة و بهذه السهولة لمئات الآلاف من الضحايا السوريين، ولاستمرار احتلال سوريا أمريكياً و سرقةِ مواردهاً. فهل عند العائدين من حلٍّ لهذا؟ سؤالٌ لا يجد الجواب الشافي والمقنع بعد. غير أن النبيلَ من الأخلاق و المتوقع من العرب أن يقولوا للسوريين، ورثةَ الضحايا و الخاسرين لحيواتهم و أجيالاً من أطفالهم، ما الذي دفع العرب لبذل الغالي و الرخيص لتغيير سوريا و لماذا فشلوا و لماذا يطلبون وُدَّها اليوم؟
مَنْ نَثَرَ الهباء في سوريا من العرب و السوريين و يحصدهُ اليوم من كل بيتٍ و عينٍ سورية عليهِ أن يجيبَ.