عروس النيل

Renaissance لنتكلم عن سد النهضة الأثيوپي العظيم. و عن معنى كلمة

المستخدمة ترجمةً لوصفه. هذه الكلمة التي تصف فعل الإنبعاث من بعد سكون والعودة للعَظَمَةِ المفقودة و المنشودة. هذا السد العظيم يعني للحبشة إعادة بعثها كقوةٍ إقليميةٍ يجب أن يُعت بها ليس فقط لعظم البناء و لكن لقدرة الحبشة على المضي به و الإصرار على آليات عمله برغم كل المشكلات السياسية التي صاحبته. و لقد صرح بهذا الطموح الإقليمي الإفريقي و ما وراء إفريقيا في الجوار العربي رئيس الوزراء الإثيوپي الذي أكد نية بلاده بناء المزيد من السدود. بكل شفافية و وضوح ترسل إثيوپيا رسالتها و آمالها و تقول للجميع حولها أن تأقلموا و تعايشوا فلا عودةَ عن الواقع الإثيوپي المرسوم الذي يشي  بمطامح و ربما مطامع جيوسياسية في الدائرة المحيطة.

 

سد النهضة هو رمزٌ ضخم لواقعٍ جديد. سدٌ اقترحته إدارة استصلاح الأراضي الأمريكية في دراسة للنيل الأزرق استمرت بين ١٩٥٦ و ١٩٦٤. سدٌ تبلغ تكلفته ما يقرب من ٥ بليون دولار مولتها إثيوپيا من مواطنيها عبر حشد التمويل الجماهيري و الضرائب و السندات. سدٌ ستحتوي بحيرته بعد ملئه في فترةٍ تمتد من ٤ إلى ٧ سنوات ما يقارب من ٧٤ بليون متر مكعب من ماء النيل. وهو سدٌ كهرومائي، الأكبر في إفريقيا والسابع في العالم قدرةً، و سينتج ما يقرب من ٦،٥ غيغاوات من الكهرباء للاستهلاك المحلي والتصدير بيعاً للجيران الراغبين. سدٌ أوكلت إثيوپيا تشييده لشركات إيطالية. فكيف نتخيل تنازل إثيوپيا عن هذا الاستثمار المركب الذي جعل السد ملكيةً عامةً بعلاقةِ عملٍ أوروپية و رَبَطَهُ بمخطط تنمية وطني متراكب الفوائد للمزارع و الصناعي و المستثمر بتوفير الماء و الكهرباء و فرص العمل و من ثم تحقيق الآمال والطموح الجيوسياسي.

 

يبعد السد عن حدود السودان ب ٤٥ كيلومتر، و يجتاز أثره عبر النيل للدلتا المصرية. منذ الأزل لم تتصور الأمم النيلية أن تُحجز مياهه عن السودان و مصر. و بضع الاتفاقيات الثنائية أو الثلاثية بين الدول الثلاثة بعد استقلالها و تلك الموقعة قبل ذلك بين بريطانيا و إيطاليا من جهة و إحدى أو كل هذه الدول لم ترق لجعل جريان النيل و الاسنفادة منه موضوع اتفاقيةٍ دوليةٍ ترعى شؤونه من المنبع للمصب. و لهذا فإن الخلاف الثلاثي يبقى ثلاثياً مع تناوله من قبل دول مؤثرة و وسطاء و الإتحاد الإفريقي و الآن الجامعة العربية  و مجلس الأمن. لكن أحداً لم يستطع أو أنه لم يرد ممارسة الضغط  على الدول لتتنازل عن مواقفهاً ففيم تنظر مصر للسد على أنه تهديدٌ لأمنها القومي، تتشدد أثيوپيا برفض هذا الطرح مع تصريحها بحقها استغلال النيل النابع من أراضيها، يبقى السودان متردداً بين فوائد قد يجنيها لكن دون ضمانات وخسارةً قد يُصاب بها. مصر لا تريد أي قيود تحد من جريان النهر لشواطئها فالنيل لها هو الحياة. قطعه أو الاقتطاع منه صنو الموت. أما السودان فهو جار لصيق لإثيوبيا عبر حدود طويلة و يريد حصته من مياه النيل دون تأثيرٍ و بزيادةٍ غير مشروطة ولا مقيدة في نصيبه لتواجه احتياجات المستقبل و هذا شيئٌ غير مضمون. وقد يستفيد من السد كهربائياً بشكلٍ ملموس إن اشترى الكهرباء من إثيوبيا بأسعار منافسة لما يُنتجهُ محلياً، وهو يُعاني حالياً الأَمَرَّيْن بإنتاج الكهرباء، لكن أن تأتي الكهرباء على خلفية شح المياه فهو ما لن يكون مقبولاً.

 

عالمياً، التقديرات الإحصائية تشير لوجود نحو مليارين وثلاثمائة وتسعون مليون نسمة يعانون من شح المياه الناجم عن عوامل مناخية وجغرافية و ديموغرافية وبنى تحتية. إثيوپيا التي يبلغ عدد سكانها ما يزيد قليلاً عن ١٠٧ مليون نسمة تجد نفسها ضمن حزام البلدان التي تعاني من شح المياه مثلها مثل مصر و السودان. بأثيوپيا ١٩٪؜ من السكان يعيشون بمناطق تعاني شح المياه. و السودان به ٣٨٪؜ من السكان البالغ عددهم ٤٢ مليون يعيشون بمناطق شحيحة المياه. أما مصر بتعداد سكانها الذي يقارب ١٠٠مليون نسمة فإن ٤٩٪؜ من سكانها هم بمناطق شحيحة المياه. و حسب التقديرات الحكومية المصرية فإن النقص الحالي من المياه التي تحتاجها يصل ل ٥٤ بليون متر مكعب فيما الحاجة هي ل ١١٤ بليون متر مكعب. و بمعدل الزيادة السكانية المصرية بواقع ٢٪؜ سنوياً فإن كارثةً مائيةً متوقعة بحلول عام ٢٠٢٥.

 

ما هي الحلول المتاحة للدول الثلاثة لتلافي هذه المعضلة حين يتمسك كل طرفٍ بموقفه؟ هل هناك حلٌ يكفل رضى كل طرف؟ من الواضح أنه لا يوجد. لكن الحلول المتاحة البديلة لمصر و السودان هي على مستويين من العمل: داخليٌ و خارجيٌ. داخلياً ستمضي المؤسسات المعنية لتحقيق وفرةٍ مائية من خلال التقنيات التي تعيد تدوير المياه وتحد من الفاقد بها وترشيد استهلاكها زراعياً و مدينياً و تنتج مياهاً صالحة عبر وسائل التحلية لمياه البحار. هي سلةٌ بعيدة المدى و مكلفةٌ تحت أي ظرف طبيعي فكيف و هناك أزمة ماثلة و مهددة للأمن القومي. و هي سلةٌ قد تتيح بعض الانفراج لكن بعد مرور سنوات قد تكون عجافاً إن شحت مياه النيل بصورة مؤثرة. و باعتقادي فهي سلةٌ لا بد من البدء بها سواء استمرت الأزمة أم هدأت.

 

خارجياً فإن العمل الدبلوماسي دؤوب مع العمل التقني لإيجاد معادلةً مُرضية لكن التصريحات الرسمية لا تؤشر لنجاح. فهل تتجه مصر و السودان لعملٍ خارجي عسكريٍ أو إستخباراتي؟ هذا الطرح لا بد من أنه الآن قد نضج و بعددٍ من الصور. غير أن الانخراط به سواء كان سريعاً صاعقاً عسكرياً أم استخباراتياً فله نتائج سترتد على البلدين للاعتبارات التالية. ليس من السهل استهداف سدٌ مثل هذا أو أي سد بمثل جودة بناءه و لا من السهل تصور إيقاف العمل به لفترة طويلة حتى لو نجحت العملية العسكرية فأغلب الظن أن إثيوپيا ستعيده و بضراوة للعمل و بضمانات عدم مهاجمته. و أيضاً فليس من السهل تصور بناء حالة عداء أليمة بين الدول الثلاثة ستبقى جرحاً غائراً لا يندمل. و لا يمكن التصور بأن مصر و السودان سيخاطران بمكانتهما الإفريقية لإن إستهداف إثيوپيا سيتم تفسيره فوراً أنه صراعٌ هما في غِنىً عنه ما بين الأفارقة و العرب. و لا أتصور أن مصر الناهضة بمشاريع عملاقة و السودان الطامح للقبول الدولي سيريدان أن تتقهقر مسيرتهما لو شنتا حرباً على السد.

 

و لا أتصور أن إثيوپيا ستصحو يوماً لتقول أنها ارتكبت خطأً و تتراجع عن تشغيل السد.

 

كل الحلول و البدائل تبدو اليوم مريرةٌ و غير مستدامة للسودان و مصر. قبولهما لأفضلِ ما يمكن الوصول إليه عن طريق التفاوض و عن طريق إعادة بناء أسلوب حياة يتوافق و فكرة أن النيل صار بقبضة الغير قد يكون سبيلاً مُرضياً لكنه علقم. و حتى لو تراجعت إثيوپيا بفعل ضغوط دبلوماسية أو عسكرية فلا مجال لأن تتراجع للأبد. كان زمان التحرك المصري السوداني لوقف السد قبل بدء بناء السد لكن الزمن لم يُسعفهما و هما كانتا بحالات التحول و الفوضى فاستفاد الأسد الحبشي من الفترة تلك و اليوم زئيره يسمعه الفلاح السوداني و المصري بعقر بيته.

 

و المشكلة هي أن النصر الإثيوپي لو تم سيعيد تشكيل منطقة القرن الإفريقي فالسد هو مجرد هرم من الأهرام التي تبنيها أديس أبابا. هي تتكلم عن ميناء لها على البحر الأحمر. و لكن من أين وهي بلا حدود بحرية؟ و الميناء سيستدعي بحرية عسكرية و مدنية و وجودا لم يكن فصار واقعاً. إنه هذا التمحور الحبشي الذي ينبغي أن تتعامل معه مصر و السودان و غيرها من دول الجامعة العربية بجديةٍ مطلقة.

 

في الخلاصة، قد تقوم مصر و السودان بحساباتهما المعقدة لتستنتجا أن لا مفر من الضربة العسكرية المعيدة للسد للوراء. إنها حرب المياه إذاً و إن خاضتاها فلا ينبغي أن تقفا دون سدٍ عربيٍ و حليفٍ يصد عنهما الهجمات و الافتراءات بعدما انسدت السبل لتحقيق حلٍ سلمي. و هي بداية حروب المياه بمنطقةٍ صار الماء فيها سلاحاً.

Previous
Previous

سمعة جسر عبدون

Next
Next

عندنا النظافة لیست من الإیمان