المارقة
ستُضيفُ الولايات المتحدة وتوابعها الغربية لسلسلة الدول المارقة دولتي "دونيتسك" و "لوغانسك" كما ستبادر الدول المارقة الأُخرى على القائمة بالاعتراف بالدولتين. المارقات هن سوريا و اليمن الحوثية و إيران و ڤنزويلا و كوبا و كوريا الشمالية. و لا قصدَ هنا مني بقبولِ هذه الصفةِ التي تُوسمُ بها كل دولةٍ لا تركع، ولا أستبعدُ إضافة روسيا وروسيا البيضاء و الصين للقائمة.
كلمة المارق في اللغة العربية لها معانٍ كثيرة لكن أقربَ معنىً يمكن استخدامه في هذا المجال هو الخارج عن المِلَّة؛ الكافر. وهناكَ معنىً آخر و هو السهمُ الذي انطلقَ. و بالإنجليزية كلمة Rogue المرادفة هي صفةٌ تُطلقُ على الشخص ذو المظهر و الجوهر الدنيء. من لا تعيرهُ انتباهاً إلا لدونيته شكلاً و تصرفاً فتبتعدَ عنه و تنبذه. للغرب، هذه الدول "المارقة" هي كافرة خارجة عن الملة و دنيئةٌ منبوذةٌ. ما أقسى هذا الوصف وما أبشع أن تعتقدَ دولةٌ بالحقِ بإطلاقِ الصفات هذه على غيرها. إنها زَرْعٌ عميقٌ في النفسية الغربية أن عندها اعتقاداً راسخاً أنها تملك شِبْه الحق السماوي لنعتِ البشر و الدول. هي وحدها الأخلاقية؛ هي وحدها التي تحترم الحقوق؛ هي وحدها التي تسمح برحابةِ صدر بالرأي العام و هي وحدها الديموقراطية.
لكن ما هي المِلَّة التي خرجت عنها دولٌ بمنطقتنا و خارجها؟ و ما هي صفاتها الدونية التي تحيلها منبوذةً؟ و من يُحددها؟ بكل وضوح، هي مِلَّةُ إطاعة الغرب و مظهره و جوهره السياسي و المجتمعي و الالتزام بالولاء له. هي دولٌ دونيةٌ إذاً عندما تقول لا أو كفى. كيف لها أن تجرؤ رفض إملاءات الأسياد! و لهذا يجب ازدرائها كثقافةٍ أو حضارةٍ و حصارها كاقتصادٍ و معيشةٍ كريمةٍ و تعذيبِ شعوبها بالحروب و العقوبات و ذَلِّهِمْ كلما أمكن ذلك. لكن، منطقياً، هناك مشكلة في الموصوف و الواصف. إن كوريا الشمالية بزعامتها الحالية ليست مثلاً يُحتذى و قد تكون أقرب للمارقة منها للطبيعية. و قد ينطبق هذا على ديكتاتوريات الزعامات. فمع احترامي لپوتين و لوكاتشينكو فإن البقاء في الحكم لسنوات و تبديل المقاعد و صياغة الدساتير ليس ممارسةً ديموقراطيةً تماماً. و لا أظن أن باقي الدول الموصوفة بالمارقة تخلو من صنوف الفساد و الالتواءات الهيكلية التي تُفقِرُ الناسَ و تُفرِّقَ بينهم. المشكلة أن مع كل هذا مما قد يكون منطقياً لوصفِ دولة ما أنها مارقة مشكلةٌ لأنَّ الدولة الواصفة ليست أقل مارقيةً من الموصوفة! على اعتبار قبولنا بالوصف و هو ما لا نقبله أساساً. على الأقل لبلادٍ هي ضحيةً لسياساتٍ غربيةٍ عدائية.
هذا اليوم وما تلاه من أيام بعد القرارِ الروسي سيُعيدُ هذا الوصف المارق من قِبَلِ الغرب لزمرة البلاد التي ستجرؤ على تأييد روسيا. روسيا اعترفت بمنطقتين روسيتيِّ السكان و حولهما خلافٌ طويلٌ. الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، يحتل أراضٍ سوريةٍ و يسرقها نهاراً جهاراً و إسرائيل و كل أفعالها العنصرية منذ إنشاءها على أرضٍ مسكونةٍ عربيةٍ وضوحَ الشمس، لا يجعل الولايات المتحدة وربيبتها الصهيونية مارقتين. و أليست سياسات الحصار والعقوبات المتبعة من الغرب سياساتٍ مارقة؟ و هل ليست كذلك نماذج الحكم الفردي اللاديموقراطي السائدة في العالم العربي مارقةٌ هي الأُخرى؟ أم لأنها متوافقةٌ مع الغرب تنتفي عنها الصفة؟ فقط من لا يتوافق و ينحني هو المارق و قد يكون مارقاً فعلياً لكنه إن انصاعَ للغرب في سيتوقف عن المارقية و يصبحُ حليفا. و هذا النفاق السياسي الغربي ليس عفوياً بل سياسةً مجدولةً، فالهدف هو طي العالم طي الكُتُبْ على مكتب الغرب. من يرفض طي الصفحة يناله الويل.
كما كتبتُ فإن العالم ينقسم. ويبدو أن توصيفَ الدول بالمارقة و بالحميدة ستتجاوزهُ إرادةُ إصرارٍ على وقف الغرب أن يكون المقرر الأوحد في هذا العالم. تفعلُ الدول ما تُمليه مصالحها و قد فعلت روسيا هذا تماماً كما فعلت الصين في هونغ كونغ مع التباين، و كما قد تفعل في تايوان. ألم تُهَندِسْ واشنطن الإطاحة الدموية لأليندي في تشيلي و غزت غرانادا؟ حديقتها الخلفية، كما قالت، و مصالحها. و ماذا تفعل في سوريا؟ مصالحها كذلك. لكن هذا مقبول كونه غربي الطلعة و أمريكا ليست مارقة أبداً. روسيا الشريرة على النقيض مارقةٌ كافرةٌ خارج المِلَّة و دنيئةٌ مزويةٌ منبوذة! هذا هو منطق الغرب. منطقٌ يُتحدى اليوم و يدخلُ نطاقات الاختبارات الصعبة.
خيرٌ لكَ أن توصَفَ مارقاً و أَنتَ على حق من أن تكون راكعاً لباطل. الأفضل طبعاً أن تكونَ نزيهاً في حكمك و على حق؛ لكنك ستكون مارقاً إن لم تنصاع. و طالما كانت خيوط المال و الأعمال و الإعلام و التقنيات تمر عبر الغرب فالغربُ من يُقرر من المارق و لو كان نزيهاً مُحِقّاً و من النزيه حتى لو كان عكس النزاهة و العدالة . آن الأوان لتغييرٍ عادلٍ يسحبُ هذه الحرية المتسلطة على العالم. كما أن الأوان دائماً آنٍ ببلادنا لإحقاق الحقوق و العدالة، مارقين وُصِفنا أم لا.