جو و باربي
قد يتلخص المشهد الإعلامي العربي ب "جو و باربي"!
كما تعلمون فإنَّ "جو شو" برنامجٌ تهكميٌّ سياسيٌّ تنتجهُ محطةٌ عربيةٌ فضائيةٌ رزينةٌ يصطادُ فيهِ مقدمهُ عبر الفكاهةِ اللاسعةِ ظواهرَ و خفايا السياسة العربية، لكن ليس بحياديةٍ. "جو" ينتقي أهدافهُ ممن لا يتوافق هو معهم و ربما ممن لا تتوافق إدارة برنامجه و ممولها معهم، بالمطلق أو جزئياً، فيُظهِرَهمْ بقالبٍ ساخرٍ يراهُ البعض سَمِجاً و البعضُ مضحكاً و البعضٌ فاشَّاً للقلب. ولكنهُ لا ينالَ باللسعِ مُضيفيه مثلاً. و أنا لا ألومُ هذا الأسلوب و هو على كل حال مُقَلَّدٌ و مُكرر فمِثلهُ أمثالٌ في طول الوطن العربي وعرضه.كل محطات التلفزة الإخبارية العربية لها ولاءاتٌ لا تخفى على المتابع تلسعَ و ترفعَ كما تريد مما يؤذي المتابعَ الباحثَ عن الخبر و التحليل الموضوعي المحايد بغضِّ النظر عن الولاء. لذلك ينتقل المتابعُ من محطةٍ للثانيةِ و الثالثةِ ليُكَوِّنَ حزمةً من الأخبارِ قد تعينهُ في تشكيل صورةٍ موضوعيةٍ عن تشابكات العالم من حولهِ. لكن معظم المتابعين يلتصقون بمحطةٍ واحدة تلاءمُ هواهم، موضوعياً كانَ أم عاطفياً. وهذه هي الحرية في الاختيار لكنها حريةَ من يُقالَ له أنه سيُعدم و له اختيار الوسيلة. بعد فترةٍ من المتابعة لا يبقى في ذهنِ المتابع إلا منهجَ المحطة، تماماً مثل غسل الدماغ.
جو" هو من تلك البرامج المُناهضة للعقل المحايد التي تخلط الهزل بالجد مستهدفةً كل من تريد باستثناء من يدعمها. بلا موضوعية؟ بل بموضوعيةِ الذكي العارف ما يفعل في لعبةِ السياسة التي تعطي بيدٍ و " تطعنُ بيد. يسمونها حرية الإعلام، لكنها ذات إتجاهٍ واحدٍ و بعيدٍ عن مصدرها. عموماً، للمتابع العربي اختيار أن يدرك أو لا يدرك إن كان مغسولَ الدماغ أو أنه "مُستعبط"، إن تابعَ بغرضِ الهوى أو التثقيف،كل محطةٍ، خاصةً الإخباريةَ منها، كما لو أنه يمشي في سوقٍ مزدحم بالباعةِ الصائحين بأصوات نشازٍ للدلالةِ على بضائعهم و كلها سواء في التدليس. و لا نعلم حقاً ما هي قيمةَ هذا التدليس في عالمنا العربي. إن المواطن الذي حتى لو انتخب برلماناً، أم ارتضى بالقيادات الرشيدة دون برلمان، لا يملك من تغييرِ سياسةٍ إن أرادتها حكومة، فلماذا تجييش محطات و برامجَ كأنه مُهِمٌّ هذا المواطن؟ تستنتج أن هذه المحطات المتفائلة بحِسِّ المواطنة و عقلِ المتابع وُجِدَتْ لخدمةِ توجه سياسي بالترغيب و التأليب؛ و كذلك لجنيِّ المال من الإعلانات التجارية. النوع الأول له غايةٌ سياسيةٌ لا يهمه الصرف المادي لتعظيمها لأنه في الغالب يعتمد على تمويل دولة. والدولة غالبا ثرية. و إن لم تكن ثريةً فهي تنقل من مواردها المحدودة لهذه المحطات على حسابِ قطاعاتٍ مهمة كالتعليم والصحة مثلاً لترويج نظرتها المعروفةِ أصلاً. وقد قيلَ عن نجاح هذا النموذج من الإعلامِ الموجه لاستثارة الربيع العربي في تِلكَ السنوات، فكثيرَ الدَّقَ كان يَفُّكُ لحام الحديد و بالتوالي يوماً بعد يوم كان يُخلقُ وعيٌّ مؤيد لتوجه المحطة و داعميها و ربما قادَ هذا لخلخلة شارع و تذمر شعوب لكن العامل الأساس في الغضبة الربيعية كان الظلم الداخلي و ليس التحريض الخارجي. و النوع الثاني يعتمد على بيعِ التسليةِِ الممتزجةِ بالإعلاناتِ الكثيرةِ المُدِّرةِ للأموال مع الترويجِ السياسي و التوجيه المنهجي المبطنين لكي يُقنعُ المتابع بالتدريج بسياسات من هم وراء المحطة. و قد قيلَ هذا عن بناءِ سياساتِ التطبيع مع الصهيونية و بعثَ روحَ الترفيه في الشعوب رغمَ أنوفها. كان ملفتاً تنظيم هيئةَ ترفيهٍ و ليس وزارةً معنيةً في شهر رمضان الفائت مسابقة بين حافظي القرآن و المؤذنين على الصوت الأصفى للذكر الحكيم و نداء الصلاة و كأن القرآن والأذان هما من فعاليات الترفيه. مثلما احتفت هذه الهيئة في أشهر سابقة بالفرق الغربية الراقصة و عيد الساحرات. نَوْعَيْ المحطاتِ هذه لها قواعد بكل عاصمة عربيةٍ، تبث الدعاية السياسية الفجة و صاعدَ و هابطَ الأعمال الإعلامية الإعلانية التي تميلُ بالمتابعين. و ينافسها بالطبع وصائلَ الاتصال الشبكي، و هي وصائل لأنها تصل بين الناس بالخير والشر. و يقالُ الكثير عن "الذباب الإلكتروني" وخلق وصائل تؤامرية لإيقاعِ المتابعين بشباك الابتزاز المادي و الخيانة. خفة دمِ "جو" السياسية و سخافات "رامز" المقلبية و ترديدات "إيلي كوهين" الصهيونية صورٌ إعلاميةٌ تلفازية و وصائلية بخلفياتٍ سياسيةٍ لها أهدافها و على المتابع عبء تصديقها، الاستمتاع بها أو رفضها. و هي ليست الاستثناء الإعلامي في السماء العربية المزدحمة بهذه الأنماط.
"باربي" بدأت دُميةً و صارت رمزاً أنثوياً تحوَّرَ من البيض الشقر للسمر و حتى للمحجبات، بل بلغَ من شهرتها أن دولةً إسلاميةً أظنها إيران أتت بشبيهتها المحلية لصرف نظر المؤمنات عنها. ثم صارت "باربي" مسلسلاتاً و قصصاً و الآن فيلماً. لا يهمنا "باربي" الدمية و لا شبيهاتها بل التناول الإعلامي الرسمي العربي الذي رافق جدلَ عرض فيلمها من منعِ عرضهِ. و لا يهمنا من وافق و رفض. بل يهمنا أن نقول أن العالم العربي لا يعتمد على ساريةِ هوائي يلتقط بث التلفزيون المحلي، و المتابع منذ عقدين و يزيد يملك حظوةَ الإتيان بكل بثٍّ و كل فيلمٍ متى ما يشاء. كان مضحكاً و مبكياً أن أرى بعض الصحون الملتقطة للإرسال الفضائي تعلو عشيش سكان مخيم للنازحين بدارفور السودانية و كلهم من متلقي المعونات الإنسانية و مصنفين فقراء. فما قيمةَ منعَ أي مادة ومحطة و بث من قبل أي دولة بوجود وسائل تقنية متاحة بثمنٍ زهيدٍ و بهاتفِ الصغير و الكبير؟ القيمةُ ضئيلةٌ جداً. وما قيمةَ "الذوق العام" و "الأخلاق" في منعِ فيلمٍ تافهٍ أو جادٍّ؟ إنها أيضاً ضئيلة. ربما قد يكون هناك أثرٌ ماديٌّ من منع العرض في دور العرض لكنه كذلك ضئيل مقارنةً بما يحصده "باربي" الفيلم في موطنه و باقي الدول. لستُ أجادلُ مع المنع و لا مع السماح لأنني أعتقد أن المنع هو مثل الذي يعالجُ قرصةَ بعوضة لإنسانٍ يختنق. و نحن قد خسرنا حرب المبادئ منذ زمن طويلٍ، و أهَّلنا المواطن ليقبلَ الفواحش حالةً طبيعيةً، و أن يكون الرد عليها بالحوقلةِ و ترك الجَمَلْ بما حَمَلْ. المشكلة الأساسية هي في ازدواجية الأخلاق و المُثُلِ عندنا فما نرفضه علناً نقبله سِرَّاً و عندما ينتقل السر للعلن تثور الثوائر و ما يتغنى به الرسميون عن العادات و التقاليد الرفيعة تفضحها الناس في الشوارع. و ها هي أفلام مصر القديمة التي كانت بالأبيض و الأسود و التي كنا و لا نزال نتابعها و هي منذ بدايات القرن العشرين تغزو مداركنا بالموبقات علناً على أنها حياة المدينة و القرية و الحارة و العائلة، و تبعتها اليوم إعلامياتٌ منتجةٌ لذات النمط بل و أسوأ في جل الدول العربية، و بالألوان. كما انتشرت الحانات و الملاهي الساقطة والنوادي الليلية من الشرق للغرب، و انتقلت حتى الدول المحافظة المنغلقة للانفتاح اللافت للاستغراب، حتى أن تقارير عن تفشي الرقيق الأبيض العلني نُشرت بتقارير منظمات حقوق إنسان عن بعض بلادنا. و بالمقابل انتكست لغة التخاطب الديني فأصبحت خطبة الجمعة و العيدين مكتوبةً و مراقبةً و مكبوتةً و انتقلت أفكار الناس المؤمنين عنها لتحييدها عن حياتهم اليومية لضعفِ ارتباط الخطبة بمشاكل حياتهم و فشلها في تقديم حلول. وغيرهم انتبذ مكاناً متطرفاً كَفَّرَ فيه و ذَنَّب الجميع. فلا المحايدين نجحوا في درأ العيب و لا المتطرفين نجحوا أيضاً. بل باتوا كلهم أطرافاً في لعبة الكراسي الموسيقية التي يتحكم فيها غيرهم مثل هيئات الترفيه، و لسان حالهم يقول العيبُ من أمامكم ومن خلفكم و مهما فعلتم ستعيشونه ببيوتكم و مدنكم سراً و علناً إن أردتم أم رفضتم. فهل لمنعِ فيلمٍ من أثرٍ يُذكر في حياة ملايين يرون ما هو ألعنَ من باربي في حياتهم اليومية أو يعانون من أجل أمنٍ و كهرباءٍ و ماءٍ و لقمةٍ و علاجٍ و سقفٍ؟ وإن كان وزيرَ إعلامٍ عربيٍّ سابقٍ قال أنه سيسافر لحضور الفيلم خارج بلده التي منعته للمحافظة على الأخلاق فماذا تقول للمراهق الملاحق للصرعات التي تسحق الأخلاق؟
إن "جو" و "باربي" و المنع و المنح من هيئاتٍ و مهرجاناتٍ هي وجوهٌ لعملةٍ واحدةٍ إسمها إعلام الثراء الموجه، و تسليةٌ مريرةٌ في بلادٍ شعوبها تلاحق السراب، والماء فوق ظهورها محمول! و ما هو هذا الماء؟! قد يكونَ تهميشَ الموبقات لحد خنقها وتشجيعَ ما يُشَّرِفْ و يرتقي بالإنسان. و هذا بحثٌ طويل لكنه معروفٌ و ليسَ مستحيلاً علي الحكومات. و كما لا نطلب خلقَ الدولة الزاهدة أو الفاضلة لاستحالة تحقيق الطلب لكننا قد نطلب الدولة أو الأمة العادلة في تناول تاريخها ودينها وثقافتها وقيمها وتربيةً لأجيالها القادمة تعرف العيب و الحرام و النخوة و الدفاع عن الأعراض والأوطان. العدل في تناول الظلم من أي ركن أتى. أما "باربي" و أشكالها فلتذهب و معجبيها للجحيم!