ما بَعْدَ أوكرانيا

لنسردَ ما نراهُ بتجرد. يقول الروس أنهم في أوكرانيا بناءً على دعوةٍ من الإقليمين المستقلين دونيتسك و لوغانسك. و يقولون أنهم لن يسمحوا بأوكرانيا نازية ولا أطلسية. ويقولون بنزعِ أي أحلامٍ أوكرانية لأن تناجز روسيا عسكرياً. و يقولون بتغييرٍ سياسيٍّ في حكام أوكرانيا من زمرةِ المتطرفين لمجموعةٍ مقبولةٍ من روسيا. و يقولون أنهم سيطروا على المجال الجوي الأوكراني و دمروا العمود الفقري للجيش. و يقول الأوكرانيون أنهم ألحقوا و يلحقون خسائر كبيرة في القوات الروسية و سيقاومون بكل قواهم. تساعدهم روحهم الوطنية و تماسك الحكومة الأوكرانية و براعتها الإعلامية و الغرب الذي يمدها بالمعونات من كل نوع. الغرب يقول أن روسيا خسرت ما يقارب ٦٠٠٠ جندي في المعركة و أن عراقيل كثيرة تضرب القوات الروسية. من هذه العراقيل الفساد الذي أصاب منظومة صيانة الآليات و فقر المعلومات الاستخبارية و صعوباتٍ ملموسة تواجه شبكة الإمداد للقوات. كما يقدم الغرب خبراته الإعلامية لتمجيد الأوكرانيين و تسويد صفحة الروس. و بالطبع، تكريس عقوباتٍ متعددة المناحي تصبغُ كل ما هو روسي بتهمٍ تصبُ في بند انتهاك حقوق الإنسان والقانون الدولي للحروب و تصل للجرائم ضد البشرية. بعد أسبوعين من المعركة لم تسقط أوكرانيا بيد روسيا و نلاحظ بلا شك مراوحةً في تطوير الهجوم الروسي. فهل الغربُ يقول الحقيقة بشأن الصعوبات التي يواجهها الروس؟ هل للمقاومة الأوكرانية ذلك الأثر الذي تتكلم عنه في إيذاء الروس؟ أم أن الروس يعلمون ما يفعلون و أن الغرب و أوكرانيا لا يقولون الحقيقة؟

 

.لا أعلم! لستُ خبيراً عسكرياً و لا أنا على إطلاعٍ إلا على ما يقوله الإعلام. لكنني من واقع ما أتابع أقول التالي

 

هي حربٌ تجري إمَّا بصعوبةٍ للروس و إمَّا بتخطيطِ العارف بما يريد. هل هي عمليةٌ خاطفة؟ عِقابيةٌ؟ أم هي احتلالٌ و تحريرٌ و تسليمٌ بعد وقت؟ أم احتلالٌ و بقاء؟ أم تقسيمٌ لأوكرانيا؟ هل سنرى حروب مقاومة؟ أين تذهب أطنان الأسلحة التي تتزود بها أوكرانيا؟ و ما هو استخدام ال ١٣ مليار دولار التي أقرتها واشنطن لأوكرانيا؟ هل ستكون أوكرانيا زيلينيسكي مستودعاً للأسلحة على عكس ما تريد موسكو؟ هل ستتحكم بأوكرانيا أيضاً على خلاف رغبة موسكو مجموعات أقصى اليمين؟ أسئلةٌ كثيرةٌ لا نعرف إجابتها و قد لا يعرف إجابتها حتى صانعوا الحرب! و في وقتٍ ما ستضعُ الحرب أوزارها بلا شك، فما من حربٍ تدوم. لكن الذي سيظلُ بالحتم هو آلامٌ و تبعاتٌ سيعانيها الروس والاوكرانيين. الروس من تكاتف العقوبات و الحصار .السمعة السيئة التي ستكلف روسيا الكثيرعلى مَدِّ السنين و الأوكرانيين من التشتت و الانقسام و توتراتٍ ستصيب الجسم السياسي و المعيش

 

في المحيط هناك عددٌ من الدوائر تضيقُ و تتسع في هذه الأزمة المتدحرجة و كلها تتقاطع أو تتلامس في تجاذبٍ و نفورٍ. كلها يبحثُ عن اقتناص الفرص في خضم توخي المزيد من "توحيلِ" روسيا في الساحة الأوكرانية  ومناهضتها في داخلها و العالم، و في تعظيم الفرص المتاحة للأطراف المتناحرة على حساب روسيا. و بالتأكيد، في آمالٍ  لتحقيق الأهداف الروسية و تحجيم الغرب و تعظيم دور روسيا و حلفائها على امتداد العالم.

 

الدائرة التركية الصهيونية إحداها. زيارة الصهيوني الرئيس لتركيا كانت مقررةً منذ فترة لكنها أتت في وقتٍ مظبوطٍ على دقات الأزمة. كان يمكن أن تأتي و تذهب بسرعة لولا حُسن الاستقبال و تبادل الهدايا. عموماً، بالشأن الروسي الأوكراني هي تتقاطع في الغاز و الطاقة و سوريا و إيران و الصناعات العسكرية المتطورة وفرض التحالف التركو-صهيوني في الأبيض المتوسط وعلى الحدود الجنوبية و الشرقية لروسيا وإيران. كلاهما في لعبةِ إيجاد الحل للأزمة و في استجرار الفوائد. كلاهما في خانةِ الفائز سواء انتصرت روسيا أم خسرت. المزيدُ من المهاجرين اليهود من أوكرانيا وغيرها لفلسطين المحتلة حين التسويق أنها الملاذ الآمن لهم. إنزياح التأثير الروسي في سوريا. ضعفهُ فيما يخص مفاوضات إيران النووية. حاجة روسيا لإيجاد حل يجعلها على أقل تقدير مضطرةً لتقديمِ ثمنٍ ما للطرفين. يدُ تركيا قوية في معاهدة لوزان و عينها على العام القادم حين تنطوي المائة عام منذ إقرارها و هي عضوٌ في الناتو و عارضت ضم القرم و باعت المُسَيَّرات لمن يشتري. "البيرقدار" تُبلي بلاءً حسناً كما يُشاع و هذا مما يزيد خسائر روسيا و مبيعات تركيا. غيضٌ من فيضٌ. مصائبُ قومٍ عند قومٍ فوائد.

 

الدائرة الغربية لا ترى في الحدث الأوكراني إلا فرصا لتحجيم روسيا و تشويه ماضيها و حاضرها و مستقبلها على أمل أن تتفكك في روسيا المنظومة السياسية الحالية و يأتي مكانها من ولاءهم للغرب. و إن لم يأت بديلٌ فإن تقبيح روسيا و حصارها سَيُعَدُ نصراً للأطروحة الغربية بفساد روسيا و إضعافا مصيريا لها مقابل تقويةٍ للغرب الذي تسوده الولايات المتحدة و بريطانيا و تتبعه أوروبا و باقي دول العالم التي ستسقط من حساباتها أو أحلامها فرصة التوازن بين قطبين. إنها عندها أُحاديةٌ واقعية في ظل قوقعةِ روسيا و تراجع الصين عن مواجهةٍ لا تراها ضرورية.

 

الدائرة الصينية أسدلت حجاب المساندة ورفعت راية المناورة فأظهرت التراجع الخجول عن دعم روسيا و هي ترى ردود الغرب القاسية. فما بالك لو أقدمت على استرداد تايوان؟ باتت الصين تنادي بالحل السلمي و تعرض خدماتها للتوسط. خسارة روسيا قوة للصين، و انتصار روسيا قوة للصين. لكن عدم الانخراط الصيني بغير البسيط من الدعم يدل على حكمة الابقاء على المقدرات الصينية ليوم قادم. بالطبع تريد الصين أن تسترجع تايوان لكن ليس على حساب نموها و إقتصادها و مكانتها. ليس الآن و ليس الآن كذلك من مصلحتها الدخول في تحالف مع روسيا قد يهدم هذه المقدرات.  نعلم عن الإتفاقية التي وقعتها موسكو و بيجين في فبراير هذا العام و لا نعلم عن جهود صينية علنية لدعم روسيا تأتي من ضمن الإتفاقية. هل هناك دعم خفي؟ و ما هو؟ و هل تخاطر به الصين إن كان؟ أم هو اتفاق بين البلدين لتجنيب الصين مغبات الدعم العلني و الخفي؟

 

الدائرة الأقرب لروسيا في الاتفاق اليوراسي صامتةٌ باستثناء روسيا البيضاء و هو ما يثيرُ الدهشة بالنظر للتقارب الروسي مع هذه الدول. هل هو من التخطيط أن تمتنع هذه الدول أن تصوت ضد قرار الجمعية العامة و منها بلدين لم تحضرا جلسة التصويت؟ أم هو من قبيلِ النأي بالنفسِ ريثما تتضحُ الصورة الأوكرانية؟ لدى بعضها تعاونٌ مُكثف مع الغرب و تركيا و إسرائيل مما يُشكِلُ كابحاً مفهوماً لاندفاعٍ بتأييد روسيا لكنها روسيا، الأم السوڤيتية، و محور المستقبل فكيف النأي؟ هي عموماً منطقةٌ غايةً في الخطورة على روسيا إن لم تنتصر روسيا و إن انتصرت على حدٍّ سواء، و مُعرضةٌ تماماً لتجاذب القوى الكبري و الإقليمية ضد بعضها البعض. هي منطقةٌ تحت المجهر المستقبلي بدون شك و قد تكون عناوين الأخطار القادمة على روسيا.

 

و الدائرة العربية تبدو بدون زخم فباستثناء التأييد السوري المتوقع صمتت الدول العربية ثم صوتت مع قرار الجمعية العامة أو امتنعت، كالجزائر. الإعلام العربي انقسم كأنما على أُسُسَ حِزبية و حتى دينية. من مع سوريا مع روسيا و من مع المعارضة ضدها! و بعض الإعلام استجلب الشيشان و الشر الروسي الكافر فيها و في سوريا فعارضها على أساس أن عدو عدوي صديقي. و هكذا. موقف الدول العربية يتقاطعُ مع الدائرةِ التركو-صهيونية و الإيرانية حين إن خبى النفوذ الروسي فقد يؤدي ذلك لتصاعد النفوذ التركي الصهيوني في المنطقة و قد تقع إيران في موقفِ المدافع بلا حليفٍ قوي حتى من الصين مما يعطي العرب يداً أعلى لاصطفافهم مع الغرب. كما يتقاطع مع النفط والغاز و الاقتصاد و الغذاء. و إن علت اليد الروسية فما هو موقف العرب من حليفهم التقليدي الغربي؟ و من إيران المنتشية آنذاك بنصرين؟ لكن الدائرة العربية للآن تبقى لا تُبدي رغبتها في التأثير منتظرةً ترسب غبار المعركة.

 

مثيرٌ كذلك موقف أمريكا الجنوبية. البرازيل مثلاً وقفت مع روسيا مع أن رئيسها لا يقل يمينيةً عن ڤلودومور زيلينسكي. و ڤنزويللا تفاوض واشنطن. وحدها كوبا مع روسيا بينما نيكاراغوا مع الغرب. و في الشرق الهند و الباكستان لم تقفا مع الغرب لأسباب تاريخية و كأنه تسديد حساب. و كان غريباً موقف المعارضة الباكستانية ضد الحكومة ومطالبتها العودة للوقوف مع الغرب!

 

لقد رأى ويرى كل محورٍ في هذا العالم في الحدث الروسي الأوكراني زاويةً فيها الكثير من التشعب الخارجي و الداخلي. فيها السياسة و التجارة. فيها القانون و نقيضه و فيها المساواة في المصيبة و التمييز بين واحدةٍ وثانية تحددها لون العيون و الشعر. فيها بعثُ أحلام الانتقام من الغرب على يد روسيا و الانتقام من روسيا على يد الغرب. كلٌ يبحثُ عن مصلحتهِ. لكن وقعَ الحدث يكشفُ عن ارتداداتٍ إضافية. سوريا مقابل أوكرانيا مثلاً؟ تقسيم أوكرانيا يقابله تقسيم سوريا؟ ازدياد مَنَعةِ روسيا مع ازدياد الحصار عليها؛ أم تشقق في داخلها بأزماتٍ معيشية؟ ارتداد العقوبات على الغربِ أثماناً فوق المقدرة؟ أم هو الانبطاح التام للإرادة الأمريكية؟ أم تموقعٌ بين القطبين الكبار إن انتصرت روسيا؟ هل تنهار حدودٌ بين الكوريتين و بين الهند و الباكستان أم ستؤثرُ هذه الدول بقاء الحال عوضاً عن الحرب؟ كان غريباً أن ينطلق صاروخٌ هندي نحو الباكستان و هو تحت الصيانة! هل سمعنا بهذا العَجَبِ من قبل؟ أم هو اختبارٌ من نوعٍ ما؟ هل ستنجح مفاوضات إيران مع الغرب أم تفشل؟ هل سيرضى الغرب بنصرٍ إيراني و نصر روسي؟ هناك عشرات الارتدادات و الأسئلة بعددِ المصالح و الرغبات السياسية. و لا تجدُ لها إجاباتٍ الآن. كل ما يمكن قوله أن الصراع الكوني هو في بداياته و لا يستبعد أي احتمالات.

Previous
Previous

هاتف المتردد

Next
Next

لكي لا ننسى: مقارناتٌ مصيرية