لكي لا ننسى: مقارناتٌ مصيرية
في ذاك الوقت لم تكن لتستطيع أن تتوقفَ طويلاً ببهو ملجأَ العامرية الخالي إلا من سَوادٍ على جدرانه و إحساسٌ بِثِقَلِ الخواء الممزوج بالموت. فيهِ تبخرت أجسادُ حوالي خمسمائة عراقي عندما أخترقته الصواريخ الأمريكية. قالت واشنطن أنه كان مقر قيادةٍ عليا و أنها تأسفُ لمقتل مدنيين. لقد حُرِقوا أحياءً. "مقتل" تبدو كلمةً لطيفةً إزاء حقيقةِ أنهم أُذيبوا من فرط حرارةِ التفجير في الملجأ المقفل عليهم. لم تكن الجريمة الأولى و لا الأخيرة في العراق. بأمسيةٍ من أماسي بغداد قصفت أمريكا بغداد بأربعين صاروخ كروز هدرت فوق الرؤوس ثم صمتت. و .قتلت ضمن من قتلت الرسامة التشكيلية ليلى العطار. في ليبيا لو جُلتَ بِسكنِ العقيد معمر القذافي بالعزيزية وكانت قد قصفته الولايات المتحدة كذلك لتحسستَ الدمار المخيف
في قانا و في غزة و جنين و بحر البقر، لمن ينسى. في پور سعيد و السويس. في سوريا رعى الحلفاء الحامون للربيع العربي أوباش المعمورة ثم احتلوا من سوريا أثرى أراضٍ بالنفط و الغاز و القمح. لم تختلف تاريخياً منذ قرون تلك المعاملة الدموية للإنسان ضد الإنسان. في الصين مع اليابان وفي كوريا مع اليابان أيضاً لا تزال الثارات بينهم حَيَّةً. و لا اختلفَتْ بين الروسِ و الشيشان و الشركس و التنر. و لا بالجزائر مع فرنسا و لا بالكونغو و بلجيكا و هولندا و أندونيسيا و بريطانيا في اليمن و فلسطين و إيطاليا و ليبيا. تطول القائمة. بشرٌ يذبحون بشراً. فعلوا ويفعلون؛ تماما كما قال الملائكة و لكن حِكمةُ الله غالبة.
الحقيقة أن كل من يملك في هذا العالم قوةً يستخدمها على الأضعف منه. و وراء كل استخدام مصلحةٌ ما، بِصِغَرِ خلافٍ على جزيرةٍ بخليج و بِكِبَرِ بلادٍ تُبلعُ بالطول و العرض. لا تتعب الآلة البشرية من القتل و لا من خلق الأعذار التي تأتي بأسماء متعددة لمبادئ حسن النوايا و الدفاع عن النفس و الأقليات و الأديان. زرعت و تزرعُ خراباً في الأوطان على اختلاف لغاتها و أشكالها بالغزو والاحتلال و بالظلم و التنكيل و بالفساد و و برعاية الرعاع من عصابات القتل و بالاستهبال للشعوب التي باتت كجملِ الساقية يدور بها و حولها و لا يطول الماء. الاستثناء الشريف هو مقاومة المستعمر و المعتدي مهما طالت السنين. لا يذوب الحق و لا يختفي في أن تقارع عدوك و تقاتله.
و إن تكلمنا عن غزوات و مجازر الشرق و الغرب فلنعد لبلادنا و نسترجع كم قتلَ العربُ من العربِ باسم العشيرة و الناقة و الأرض و غيرها من الأسباب المنطقية لكل قوي منهم على كل ضعيف؟ كيف تحولت ببلادنا حركات التحرير من الاستعمار إلى حكوماتٍ مستقلة ساقت شعوبها بعد الاستقلال نحو التغزل بالاستعمار؟ كيف استساغت أوطاننا حمايةَ مصالح الحلفاء قبل الأشقاء؟ كيف استأنستْ أسوأَ ممارسةٍ عنصرية فتصالحت مع الصهيونية و صارت تأتي بكل سبيلٍ و آية تحض على السلم؟
مؤلمٌ أن تعيشَ فظائع الاعتداءات التي لا يذكرها كثيرٌ من الناس اليوم، و لو اختلفتَ مع الأنظمة السياسية التي سادت وقتها. لكن بشراً مثلنا ماتت واندثرت جراءها و لم تجر محاسبةٌ و لا محاكمةٌ و لا ملامةٌ لقاتلٍ تقود لعقابٍ إلا مقتلةَ زعماء محليين بمحاكمةٍ أو بموقعةٍ. لكن إرهابيي الصهيونية و قادة الغرب الحديثين صاروا زعماء سلام و مستشارين للتنمية و الاستراتيجيات تُفتح لهم القصور. و مؤلمٌ انحسارُ النقاء و الإيثار بين المقاومين الذين قبل سنوات كانوا عناوين جهاد و تدثرهم تدريجياً بالسياسة المهادنة لعدوهم بل و تحالفهم مع الفساد و ابتعادهم عن شعوبهم. كان معمر القذافي نكتةَ الكثير في العبارات التي رَشَمَ بها ليبيا من مثيل "الدينار لا يلد و الدجاجة تبيض" وأنهم، أي الغرب، سيغزوننا للاستيلاء على التراب والشمس. لكنه كان يقول بالاعتماد على النفس في ممارسةٍ هو نفسهُ كان أول من نقضها. لا يتوقف العالم عن وعظنا بالحِكَمِ و هم من يتمسخرون بعقولنا و حيواتنا بالسياسات متجددة الاستعمار. الشعوب قلقة من أين سيأتي القمح و كأس الماء. لا وقت لديها لتنظر أبعد. لهذا فإن السؤال المتداول بيننا اليوم عن تبعاتِ حرب أوكرانيا علينا هو إن سيكفينا الدقيق الأوكراني في رمضان؟ يا للسخرية. لا نعيشُ من غير استيراد طعامنا. كما السؤال إنْ ناصرنا روسيا فهل ستتحول روسيا لتكونَ عوناً لنا في حروب تحريرنا؟ هكذا يأمل البعض. أم هل ستنتقمُ أمريكا في منطقتنا ضد روسيا في لعبة الدومينو العالمية؟ يقول البعض بهذا كذلك. و السؤال الأكبر الذي لا يُسأل: هل نملكُ مصائرنا كما نقول؟
ونحن فينا آلام فلسطين و سوريا و العراق و اليمن و لبنان و السودان و ليبيا و الصومال و تونس حيث ملايين العرب التي تعاني الأمرَّينِ من داخلها و خارجها على يد الأبناء و الأشقاء العرب ناهيك عن أصدقائهم و حلفائهم، فإن رسمت روسيا حدوداً بأوروپا جديدةً فهي ترسمها لمصلحتها؛ و تعارضها أوروپا و أمريكا لمصلحتها كذلك. تبقى هي دولاً تُقَررُ مصالحها و تدافعُ عنها مصيرياً. أما نحن، فمصائرنا بيدهم، ومن هم أصغرَ منهم، و لا نستحي و لا نخجل. بِئس الحالُ حالنا.