التناقضات الفلسطينية لا تؤدي للتحرير
كتبتُ بعضَ ما يلي بعد استشهادِ خضر عدنان ثم توقفتُ لأن الكلماتَ باتتْ تتكررُ لوصفِ أحوالٍ تتكررُ بآلامها و غَصَّاتها و خيباتِ أملها. إعتداءٌ ثم إعلان "وقفَ إطلاقِ نارٍ"، بين "غزة" و "إسرائيل". و إطلاقَ نارٍ بين "السلطة" و "محتجين" علي مقتل خضر عدنان في جنين. أو سخطٌ من السلطةِ لإعادة أسر أسيرٍ محرر و سخطٌ من "حماس" لقمعِ معارض. المستوطنون الذين يمكن وصفهم بالحيوانات الهائجة لا يتوقفون عن إهانة الفلسطيني و لا تتوقفُ عن ذلكَ مجنداتِ الجيش اليهوديات اللواتي يتحولنَ لسائحاتٍ ببلاد التطبيع. لا تهدأَ غضبةَ الفلسطيني و استماتةَ مقاومتهِ حتى يُعلنَ عن اجتماعٍ أمنيٌّ ثالث بين رجالات السلطة و "إسرائيل"، حرْبةً في عينِ كل غيور. إجتماعاتٌ خاوية إلا من مزيدِ الدم الفلسطيني في مدن وقرى فلسطين علي يدِ الصهيوني الذي يحاوره و يصادقه فلسطينيون. ثم صحونا علي غارةِ القتل الذكية بقنابل أمريكية لثلاثة قادة ذكرتنا بمقتلة "فردان" في بيروت قبل عقود. و عادت تطرق آذاننا بيانات التنديد و الوعد بالرد و أقساها هو تعبيرٌ عن قدرةِ المقاومة إيقاف حياة إسرائيل التي فتحت الملاجئ. يا ترى أين سيكون ملجأ ميار؟
الشهيد خضر عدنان عندما استشهد أسيراً كان يقاوم الاحتلال بما يملك، وهو جوعَ وعطشَ جسده. وهو رمزٌ للآلاف من الأسرى المقاومين وراء الأسوار الذينً يقودون المقاومة لأنهم قدوةٌ لمقاومين يظهرون دون توقع فلا يمكن تغطيةَ ذكراهم و لا صمودهم و يمكن للصهيوني قتلهم بفضل التنسيق الأمني و شبكة رخيصي الثمن و الأنفس من فلسطينيين عملاء له و بفضل التقنية التجسسية التي يمتلكها. وهم، الأسرى و المقاومين، يمثلون فئةً من الفلسطينيين الذين اختاروا أن لا ينصاعوا لحياةِ المهادنة أو قياسَ الحياة بالماديات، مع أهميةِ المادة.
نتوقعُ من قادة المقاومة أن يكونوا أكثر حرصاً. ربما كانوا ولم يتمكنوا من هزيمةِ الوشاة و العملاء و التكنولوجيا الصهيودية. فأن يُغتالوا و هم مع عائلاتهم مؤشرٌ مليوني علي همجية الصهيودي لكننا لا نحتاج لدليلٍ علي هذا. الاستغراب هو من تناقضاتٍ تنخرُ في الجسم الفلسطيني طولاً وعمقاً. ظاهرياً توجدُ مقاومةٌ شجاعةٌ لكنها تُغتالَ و تُتَصيَّدَ أينما و كما يريد الصهيوني؛ وتوجدُ حُكْومةٌ للسلطة لكنها مهادنةٌ و تستقوي علي من يعارضها من شعبها فأصبحت حاميةً لظهر الصهيوني؛ و هناك شعبٌ حائرٌ بين ضفةٍ بشبهةِ استقلالية و احتلالٍ لفلسطين الكاملة منذ ١٩٤٨ بجانبِ قطاعٌٍ محاصر في غزة بصفةِ مُقاوم. و هناك للغرابةِ عَرَبٌ فلسطينيين "يخدمون" بالجيش "الإسرائيلي" منهم دروزٌ يعتبرون نفسهم "إسرائيليين". و للعدالةِ هناك دروزٌ ضده و يعتبرون نفسهم عرباً سوريين و فلسطينيين و مقاومين. و هناك عربٌ من البادية منقسمين مثل الدروز بالانتماء و التوجهات و مثل المقاومين. و هناك لمزيدِ الاستغراب والاستهجان فلسطينيين مسلمين و مسيحيين من عمق فلسطين بهذا الجيش، و وزراء بحكومته. وهناك طبقاتٌ ككلِّ الشعوب متعلمةٌ وعاملةٌ، بفلسطين أ و ب و ج و في مستوطنات الصهاينة، تعيش بحسابِ "الشيكل" تبني للمستقبل المجهول داخل فلسطين وخارجها و لها انتماءٌ فلسطيني عميقٌ تُخالجهُ الحاجة للمناورة و المرونة في سبيل الحياة و متطلباتها فمن الذي يستطيع أن يقاوم كل ساعات الحياة. وهناك مجتمعٌ مرابطٌ حول الأقصى تحسبهُ قائماً بذاتهِ ينالهُ التنكيل و النفي، ومجتمعٌ موازٍ مُحاربٌ حول الحرمِ الإبراهيمي ينالهُ الحصار و البذاءات الاستيطانية، ويبقى المجتمعَيْنِ علي صمودهِما. و هناك شبابٌ هم بين التدين و التزمت و بين المقاومة و الانفلات، أو نسيان كل وطن وانتماء. مجموعاتٌ فلسطينيي الداخلِ هذه تختلطُ لتفرزَ شعباً قد يلتقي علي رغبةِ التحرير و يختلف علي وسائلها. و قد لا يعبأ و قد يقبلُ أن يذوبَ طالما مصالحهُ الضيقةُ يلبيها الاحتلال و يشفيها حاجةَ الغرور بالقوةِ المسيطرة علي الغير. أما الخارج الفلسطيني فهو بين معيشةِ مخيمات و انتماءٍ لمكانِ ولادةٍ و نشأةٍ في بلاد الله لا تختلف أهواءه عن الداخل كثيرا باستثناء البعد عن الصهيوني. هكذا يتجزأ الشعب الفلسطيني و تتجاذب أجزاءه بل أنها قد تتصارعَ و كلُّ يريدُ أن يسحبَ الكلَّ لزاويته. كأنه ليس صراعَ بقاءٍ مع الصهيونية يستوجب الانخراط الكامل فيه من الجميع. و نكادُ نستسلمَ لحقيقةِ أن الواقع الفلسطيني هو انقسامٌ خطيرٌ و أنه دون توزيعِ أدوارٍ أو خطة واحدة. فلا يوجد للفلسطينيين خطةَ تحرير، إن كان التحرير هو الهدف.
لم تنجح السلطة الفلسطينية و لا حركات المقاومة علي جمعِ الفلسطينيين علي كلمةٍ سواء. في الماضي كان هناك منظمةٌ تُديرَ التوجه الفلسطيني من "رأسهِ لساسهِ" و اندثرت. تفتت الفلسطيني و تفتت مطالبه و صارَ سهلاً مع هذا التفتت أن تصطادهُ الصهيونية. قد لا ينفعَ إلا الصاروخ و القنبلة في غزة لكنَّ منعَ التصريح و عوائدَ الضريبة ينفع مع السلطة كما ينفع المستعربين و الشاباك و رصاصهم مع مقاومي المدن و المجندات والمستوطنين في القدس والخليل حول الحرمين. صارَ لكل فلسطيني أداةٌ صهيونية ملائمة. حتى فلسطيني الخارج لهم أدوات مثل بطاقات التئام الشمل و الجسور و التأشيرات الصهيونية و السفر عبر مطارات الصهيونية لأنها أسهل!
نقول و نعيد أنه لا توجد استراتيجيةً فلسطينية أو مقاومة، و إن وُجِدَتْ، فهي مرتبطةٌ بالخارج و ليست بين الفلسطينيين. فالجانبين، السلطة والمقاومة، علي طرفي نقيضٍ جارحٍ للقضيةِ الفلسطينية. فهل يعقل هذا التنافر المعيب في المواقف؟ إن التعاطف العملي لمقاومي الاحتلال خارج غزة في المدن هو مع مقاومي غزة، و هم قد لا يلتقون معهم عقيدةً، و هم كذلك عملياً خارج نطاق التفكير للسلطة التي لا تريدُ منهم زلزلةَ استقرارها وهي تتحاملَ لتجد طمأنينتها في لعبة الدبلوماسية. و الارتباطُ الخارجي لمقاومةِ غزة ليسَ أمراً تكتيكياً يمكن إخراجهُ بسهولة من الحساب الفلسطيني أو العربي لارتباطهِ بقوى مثل إيران و حزب الله التي لها حساباتها المعقدَّة السياسية و الدينية في المنطقة.
قد نُصدِّق أن تقفُ الصهيونية منتظرةً الرد الفلسطيني في تكرارٍ زمني و مكاني و هي بلا شك تتهيأ لردها علي الرد. فهي ستجدُ في العرب من سيسعى لوقف النار بعد خراب البصرة في غزة و باقي المدن و الحرمات و ستجدُ في الفلسطينيين من سيوافقها غْرْماً و غراماً نكايةً بمقاومةً هي برأيهِ لا تُجدي، و ستمضي مواكب الأحزان الفلسطينية في عائلاتٍ تكسرت عواميدها. تضحياتٌ شجاعة لكنها بلا هدفٍ مُتفقٌ عليه، هائمةً، في حين أن التفتت الفلسطيني المجتمعي السياسي سيبقى العامل الأكبر المؤلم المؤثر علي المدى القادم. والمطلوب هو قيادةٌ واحدةٌ بخطةٍ واحدة عنوانها التحرير عبر المقاومة بكل فلسطين.