إيران و إسرائيل و الجزائر (٢)
استدعت مقالتي حول إيران و إسرائيل عدداً من التعليقاتِ التي لم ترَ في المقاربةِ حرباً لأسباب لها علاقةٌ بتوازنِ الرُعْبِ والحروبِ بالوكالةِ التي تستعيضُ بها الدولُ عن الحربِ المباشرة، و بالكوابح الدوليةِ التي لن تريدَ حرباً غير محسوبة النتائج. البعض أرْجَعَ اللا حرب لوضعِ إيران الضعيف نسبياً جرَّاءَ العقوبات و الحصار، و الرغبةَ الوصول لاتفاقٍ حول البرنامج النووي، مما يعني تنازلها والقبول بشروط الرقابة مقابل رفع الحصار و بالتالي انخفاض حدة المواجهة. و ذكر آخرون وَضْعَ إسرائيل الضعيف وهي محاطةٌ بحزامِ الصواريخ مما يوهِنُ من عزمها المغامرةَ بحربٍ ضد إيران و يضعها في توازنِ رعب. و قرأ البعض في المقالة استهانةٌ بإيران و حلفاءها و تهويلاً لقوةِ إسرائيل مما عنىٰ لهم انهزاميةً في الطرح عندما التصريح المُتَحدِّي هو أن إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت. و قرأَ البعضُ إقحاماً للجزائرِ في المقالةِ لم يكن له داعٍ و نوعاً من الإنكارِ لبلدِ المليون شهيد و قدرته الدفاع عن نفسه. و لم أغفل عن عددٍ من المقالات القيمة اللاحقة نشرتها "الرأي اليوم" تناولت احتمالات الحرب. لذلك العودة للموضوع و للمقالة هنا للتوضيح اللازم.
قبلَ هذا أُذِكْرُّ بالدكتور شاكر مصطفى رَحِمَهُ الله و هو الأكاديمي السوري الرصين الذي كان يقدم من تلفزيون الكويت بأواخر الستينات برنامجهُ الأسبوعي الرائع "إعرف عدوك" و فيه كان يُفَصِّلُ الثنايا الصهيونية للمتابعين؛ و العدو، للكويت و العرب، آنذاك و لليوم و غداً ليس إلا إسرائيل الصهيونية العنصرية. فلنعرف هذا العدو ليس خوفاً منهُ و لكن تحسباً من مؤامراتهِ و استباقاً لخططهِ. و يجب أن نعرفَ أنه عدوٌ مهما قيلَ عن معاهدات. و أنهُ قويٌ و متمكنٌ و أنه ليس من الضعفِ أن نذكرَ مكامنَ قوته و لا القصدَ من ذكرها أن نستسلمَ لهُ أو أن نُقللَّ من قدراتنا.
من مكامنِ قوتهِ تعدد الأصول التي ينحدر منها أفراده مما يعزز القدرة على التمويهِ و التداخلِ كعملاء مخربين في كل البلدان تقريباً، عدا عن حمل عملاءه جنسياتٍ أصليةٍ لدولٍ ثانية و ثالثة تمكنهم من السفر و التنقل بحريةٍ، والأمثلة على هذا أكثر مما يُحصى. كذلك التحالف الأمريكي و الأوروپي معه و هو ما يُعطي تغطيةً كاملةً للصهيونية فيما تفعله علناً و سراً. و أيضاً أن روسيا والصين، حليفتا العرب، لهما علاقاتٌ طبيعيةٌ مع إسرائيل و أنهما ليستا بوارد عداءِ إسرائيل لرضى العرب. و يجب أن نعرف أيضاً أن الصهيونية زرعت في العالم فكرةَ أن إسرائيل هي الوطنُ و الملجأ الآمن لليهود "المستضعفين" تاريخياً منذ عهد السَبْيِّ البابليِّ ولألمانيا الهتلرية ومن كلِّ ما قد يؤذي اليهود حاضراً و مستقبلاً، و لذلك هي تجمعهم من قاراتِ العالمْ و تمنحهم المواطنية و الحماية و أن واجبَ إسرائيل المقدس و حلفائها هو حماية اليهود من الخطر قبل حدوثه. و قد فعلت ذلك مراراً عبر الترحيل السري لهم و عبر استهداف من تصنفهم أعداء بالغارات والاغتيالات. بل أنها أضافت لأحياءِ اليهودِ أولئك الموتى من جواسيس و عملاء و ما تركه اليهود من آثار و أخذت الحق استباحةَ الحدود بحثا عنهم. هذا بالإضافةِ للقدرةِ على توجيهِ الإعلام العالمي بما يخدمها و يُشَوِّهُ أعدائها. و أخيراً أن قدراتها العسكرية يجب أن تكون دائماً أقوى من قدراتٍ مجتمعةٍ لمن تصنفهم أعداءً. هذه مكامنُ قوةٍ شاملةٍ يجدها من يعتبر إسرائيل عدواً عَصِّيةً على التجاوز بسهولة خاصةً مع الرقابةِ الصارمةِ التي تمارسها إسرائيل و حلفائها و بكامل أجهزتهم لأي تحركٍ يُستدَّلَ منه أنه قد يؤدي لأذيةِ إسرائيل. و إسرائيل وحلفائها يصرون على أن المطلوب من الجميع بمنطقتنا الانصياعَ و قبولِ أمرَ إسرائيل الواقع والكفِ عن معاداتها أو تحديها، و التصالحَ معها. و من لا يفعل يجد نفسه في دوامةٍ من المشاكل الداخليةِ والخارجيةِ التي مع الوقت و الضغوط تجبره على القبول.
نجحت هذه السياسة فعلاً فلم يبق من مُتَحَدٍّ مُجاهرٍ لإسرائيل بمنطقتنا إلا المقاومة الفلسطينية و اللبنانية و سوريا و العراق و اليمن و الكويت و الجزائر و تونس. باقي الدول العربية لا تتخذ مواقف متحديةً و إن كانت عقيدتها و عقيدة الشعوب هي الكراهية الشديدة لإسرائيل، لكنها ارتبطت بمعاهداتٍ لا تعطيها حرية التعبير الفعلي عن العداء الشعبي على الأقل. و في محيطنا غير العربي فإن إيران هي الدولة التي اختارت عداءَ إسرائيل منذ اللحظات الأولى للثورة الإيرانية. وإيران لهذا هي في محورٍ مقاومٍ ساهمت بإقامته يضم سوريا و اليمن الصنعائية و المقاومة اللبنانية و الفلسطينية وقوى شعبية عراقية. أما الكويت فبقيت على موقفها الممانع للتطبيع رسمياً و شعبياً و هي و تونس لا تشكلان تحدياً حقيقياً بعكس الجزائر التي يكتسب موقفها بُعداً وازناً بموازاة تطبيعِ المغرب المتعاجل. بمعنى، أن ممانعةَ الكويت وتونس هي ممانعةٌ لا تؤثرُ في هذا الوقت على الأرض بينما ممانعةَ و تحدِّي الجزائر تحملُ ثِقَلاً لا يمكن تجاهله إسرائيلياً.
لم يَرَ التاريخ تحويلاً و تزويراً مثلما فعلته الصهيونية بفلسطين و الجولان. لكن لا الفلسطينيون و لا اللبنانيون و لا السوريون و لا العرب بمختلف خلفياتهم حتى مع التطبيع و التمييع للهِمَّةِ الوطنية يقبلونها أو يستكينون لها. و لا إيران و لا مئات ملايين من المتعاطفين في الشرق والغرب. تفشل إسرائيل و حلفائها انتزاع الاستسلام منهم. لكن إسرائيل اليوم مُهيمنةٌ عالمياً رغم التزوير و الاحتلال، فالعالم قَبِلَ ادعاء و دعايةَ حمايةِ اليهود على حساب العرب و استقوى هذا الإدعاء بمعاهدات السلام مع إسرائيل. وإسرائيل هي في حربٍ فعليةٍ مع محورِ المقاومة الذي يرفض الإدعاء. هي و هم أعلنوا ذلك و دخلوا أنواع الحروب، لكن الأذى الإسرائيلي يطالهم و إيران بأشكالٍ متنوعةٍ و جارحةٍ و لا يقابلهُ ردٌ بمثيلهِ إلا فيما ندر. هكذا نعلم من الإعلام. ليس سهلاً اغتيالَ القادةَ و العلماءَ و لا تفجيرَ المنشآت. و إسرائيل تستخدم في هذه الحرب المتواصلة سلاح العملاء الفعال، و سلاح الإعلام للتشويه و التحريض، و سلاح التقنيات العالية لزرع الڤيروسات الكومپيوترية و التجسس التقني بأنواعه، و سلاح التعاطف معها من الغرب و الشرق. و هي تشنُ الحربَ لأن محور المقاومة يحيطها ليس فقط بقوةٍ صاروخيةٍ كبيرة و لأن إيران ساعدت المحور الوصول لهذه القوة ولكن لأنهم يرفضونها و ما تمثله. لإسرائيل، التهديد ضدها يكون بأي وسيلةٍ تطالُ شرعيتها لملمةَ يهودَ العالم و الدفاع عنهم؛ و الدفاع هو بالهجوم على عدوها الذي يرفضها و يستعد لقتالها. فهل سيقبلُ العالم ما يعتبرهُ تهديداً لليهود على يدِ العربِ المقاومة وإيران؟ و هل سترضى إسرائيل أن يصل التحدي لها لهذا الحد؟
قطعاً لا. لا العالم يرضى و لا هي تنتظر. و لا كذلك من دليلٍ أن الحل الذي يراه محور المقاومة، و الذي يتمناه العرب، بخلو فلسطين و الجولان من الاحتلال و عودتهما للحكم العربي الفلسطيني و السوري مع يهود يختارون البقاء لكن ليس كإسرائيليين، هو حلٌ قابلٌ للتنفيذ من دونِ حربٍ كبرى ينتصرُ فيها محور المقاومة و تنصاع لهذا النصر دول العالم دون مقاومة. عَوْدٌ على بدء إذاً. نحن ننظر لهذه البدائل: سيادةَ إسرائيل على المنطقة؛ سيادةَ محور المقاومة؛ أو نوعٌ من التعايش بتوازنِ رعب مع تمدد التطبيع بما يعطي إسرائيل وثيقةَ التأمين التي تريد. اليوم لا يمكن الجزم بالبديلين الأوليين و إن كان الميزان يميل لسيادة إسرائيل بالنظر لمكامن قوتها. و البديل الثالث غير مقبولٍ إسرائيلياً فهي لا تعترف بتوازنٍ مع أي دولة في المنطقة بل أن معتقدها هو في مجابهة القوى المهددة و في آنٍ واحد إن استطاعت. إيمانُ إسرائيل أنها لن تسمحَ لدولةٍ أو محورٍ أن يتحداها أو أن يتوازنَ معها بل أنها ستسعى لتقويضه و بكل الوسائل. و هو ما تفعله مع إيران و محور المقاومة و حركات المقاطعة و وسائل الاتصال الاجتماعي و في الأمم المتحدة في حربٍ سريةٍ و علنيةٍ و في استمرار حض دول العالم لتقف معها. لم تشهدَ الأمم المتحدة صفاقةً و احتقاراً مثل ما يُبديه ممثل الصهيونية تجاه مؤسساتها و تقاريرها و مع ذلك ما من مُعترض. و لا من معترض عندما تُغيرُ على سوريا أو تقتل عالماً إيرانياً أو مقاوماً لبنانياً أو قائداً أو طفلاً فلسطينياً أو مهندساً تونسياً. لكنها رغم الحرب و الصفاقة و المؤامرة تكتشف أن حربها لا تجدي مع محورٍ عنيدٍ يرد عليها كلما استطاع عسكرياً و يرد عليها باستمرار ببناء قوته. فماذا ستفعل وهي تحمل، زيفاً، "مسؤولية" حماية اليهود و هي قد طورت لذاتها و المستعمرين من الصهاينة عقليةَ القتال للحياة و الانتصار مهما كان؟
رأيي أن إسرائيل ستستمر في أخذِ المعركة لداخل إيران و سوريا و غزة ولبنان في حربٍ خفيةٍ و معلنةٍ. خفيةً لأنها بفعلِ عملاء و تقنية، و مُعلنةً بأحداثها التي ستقول لمحور المقاومة أنها تستطيع الوصول و إيذائه. أما رَدَّ المحور العملي ففي تطويق الأراضي المحتلة بقوةٍ ناريةٍ صاروخيةٍ مخيفة. ها نحن نتجه و لو لم ترد إسرائيل لتوازنِ الرعب. فهل سيصمد طويلاً؟ هل سترضى إسرائيل بالسيف الصاروخي فوق رقبتها؟ و هل سيتخلى محور المقاومة عن النصر النهائي؟ و هل سيقبل حلفائها و هم الذين يوقعون الحصار و العقاب على محور المقاومة؟ لهذا من الحتمي أن يتجه الطرفان للمواجهة الكاسرةِ للتوازن و الفارضةِ شروطِ المنتصر. متى المواجهة و كيف نهايتها هي بعلمِ الغيب لنا و لكنها بالتأكيد بتصور المحور و عدوه.
أما الجزائر فهي محور المقاومة العنيد في الشمال الإفريقي. و تقف اليوم أمام ما لم يكن معقولاً و هو توافقٌ مغربيٌ إسرائيليٌ يُخشى أن يتحول فيه المغرب من منافسٍ شقيق لشريكٍ لعدوٍّ. على الأغلب لن تترك إسرائيل فرصةً متاحةً لها عبر هذه الثغرة لتدخل الجزائر للتخريب و الزعزعة بأنواعها. فهل ستقف الجزائر متفرجةً و إسرائيل باتت على تخومها؟ و كيف الرد؟
باختصار، المنطقة اليوم هي بمواجهة القبول بالحقبةِ الإسرائيلية أو رفضها. القبولُ سيعني علماً إسرائيلياً و شمعداناً يُضاء، لكن بعصبيةِ الصهيونية العنصرية وليس الديانة اليهودية، من جاكرتا لنواق الشط. و الرفض سيعني المقاومةَ والاستعداد للحربِ الآتية لا محالة. و لهذا "اعرف عدوك" الصهيوني و كن مستعداً. إنما النصر صبر.